المطامع السعودية التوسعية في اليمن - الجزء الأول | المكتبة الدبلوماسية

المطامع السعودية التوسعية في اليمن - الجزء الأول


د. محمد علي الشهاري

بفعل قانون الصراع الاقطاعي ـ الطائفي والسياسي ـ السلطوي بين ائمة اليمن وامرائه وبين الأئمة انفسهم، كان لابد أن تتمزق هذه الدولة المركزية الوحدة التي عاشت مائة سنة تقريباً، ولقد غطى هذا الصراع فترة القرن الثامن عشر كلها، حيث بدا انفصال حضرموت في مطلع هذا القرن، سبقه استقلال عمان،وتلاه انفصال عدن ولحج من خلال الربع الثاني لنفس القرن، وما كاد القرن ينتهي حتى كاد الجنوب قد اتم عملية انفصاله عن حكم صنعاء، وتحول إلى امارات متعددة، وخلال عملية الانشطار هذه لعبت قبائل يافع دوراً رئيسياً وحاسماً فيها، لا بالنسبة لخروجها هي نفسها على حكام صنعاء، فحسب، وانما أيضاً بالنسبة لعملية فصل حضرموت وعدن ولحج، وشتى المناطق الأخرى  التي اصبحت تسمى فيما بعد بالنواحي التسع.
وما كاد يهل القرن التاسع عشر حتى أخذت القوى الطامحة في اليمن تعمل سيف التجزئة في القسم الشمالي من الوطن وبالذات في عسير ونجران، إذ ما كادت الحركة الوهابية تستقر في نجد بعد تبني الأسرة السعودية لها اخذت تمد ابصارها نحو الحجاز واليمن، ففي منتصف 1215هـ (نهاية الـ 1800 جرد عبد العزيز بن محمد بن سعود حملة لاخضاع عسير السراة بقيادة ربيع بن زيد، مؤيدة بدعم شيخي عسير البارزين محمد وعبد الوهاب ابني عامر العسيري الذين كانا قد اعتنقا العقيدة الوهابية السلفية، وغدت عسير السراة منذئذ نقطة انطلاق للتوسع السعودي صوب عسير تهامة، وصوب تهامة اليمن كلها، وفي عام 1217 هـ (1802  ـ 1803م) تحرك أمير  عسير السراة عبد الوهاب العامري ـ المعروف بابي نقطة بدفع من عبد العزيز الأول ـ صوب ابي عريش لاخضاع اميرها الشريف حمود بن محمد المعروف بأبي مسمار الذي كان يحكم المنطقة باسم امام صنعاء المنصور علي بن العباس، وقد اتيح له ذلك بالفعل وادخل الشريف حمود ضمن دائرة النفوذ السعودي، حينئذ انطلق أبو مسمار نحو تهامة الجنوبية، وانتزعها من امام صنعاء،وبسط سلطانه عليها حتى زبيد، وحيس، والمخا، وغدت امارته التهامية الواسعة ـ شأنها شأن امارة عسير السراة تابعة لسلطان نجد، غير ان الحاكم الوهابي الطموح (سعود بن عبد العزيز) لم يقنع بذلك، وانما طمح إلى الحاق اليمن كلها بمملكته، ومن أجل ذلك فإنه طلب إلى الشريف حمود ان يزحف إلى صنعاء، ويقضي على امامها ويتبع صنعاء بعاصمته "الدرعية، في نجد، ولم يكن من السهل على ابي مسمار القبول بمثل هذه الطلب الخيالي، فرفض الأمر، وعقد صلحا مع الامام المتوكل على اساس اعتراف الامام بما تحت يد الشريف من الأراضي اليمنية، وتطلع إلى الاستقلال بإمارته عن الأمير السعودي، ومن جديد تقدم عليه عبد الوهاب أبو نقطة، مدعما بقوة نجدية، حيث دار قتال متوحش عام 1224 هـ (1809 ـ 1810م) في وادي بيش بأطراف عسير الشمالية، كان فيه الى جانب ابي مسمار حوالي 17 ألف مقاتل من يام وبكيل وحاشد وهمدان، وتهامة.
وقد تمكن الشريف من قتل عبد الوهاب ولكنه لم يكسب المعركة، وكر راجعاً إلى ابي عريش، بينما زحفت القوة التابعة لسطان نجد إلى صبيا وجيزان بعسير تهامة، ولم يجد أبو مسمار مناصاً من الاذعان ـ صلحا ـ بعد ان تقدمت عليه عام 1810 حملة أخرى بقيادة أمير  عسير السراة الجديد الموالي للسعوديين طامي بن شعيب السليماني بدفع خراج سنوي للإمام سعود عن امارته التي ظلت ممتدة من ابي عريش إلى زبيد، ولا سيما بعد أن لعب دوراً في اقناعه أمير صعدة المتحالف مع سلطان نجد.
ولم يقتصر نفوذ السعوديين على عسير وتهامة اليمن، وانما امتده عام 1805 ـ من خلال عبد الوهاب ابي نقطة أيضاً ـ رجلهم ومعتمدهم الأول في اليمن كلها ـ إلى نجران، دون ان تتمكن الفصائل السعودية ـ على أي حال ـ من الاستقرار فيها.
وفي عام 1224 هـ (1809 ـ 1810م) حاولت قوة سعودية الوصول إلى حضرموت، ولكن كان مصير أكثرها الفناء، وهو نفس المصير الذي لقيته قوة أخرى بعثت إلى هناك عام 1226 (1811).
أن مما ساعد على تقدم النفوذ السعودي في اليمن افول قوة ومجد الدولة القاسمية، وضعف الامام المنصور، وتضعضع مكانته، وبلغو الاوضاع في صنعاء نفسها درجة المن التدهور والتردي، جعلت القبائل تتمرد عليها،وتخرج على الامام ذاته، وتحاصر العاصمة عام 1223 هجرية (1808 ـ 1809)
غير انه منذ هذا العام أخذت هذه الموجة التوسعية السعودية التي كانت، قد وصلت أيضاً إلى العراق، تتراجع وتنحسر، وشرعت الدولة الوهابية الأولى تتعرض منذ عام 1811 لضربات جيش محمد علي، وتترنح وتتهاوى تحتها، حتى تم له القضاء عليها تماماً في بضع سنين، في نفس الوقت الذي تقدمت فيه فيالق من هذا الجيش القوي والحديث نسبياً صوب عسير وتهامة اليمن، وحل بذلك نفوذ محمد علي باشا حاكم مصر محل النفوذ السعودي في هذه المنطقة من اليمن، حتى بلغ تعز، قبل أن تتحول اليمن كلها ـ باستثناء منطقة صعدة، حصن الامامة الحصين، والمنطقة الجنوبية التي كانت قد وقعت تحت السيطرة البريطانية منذ عام 1839 ـ إلى ولاية تركية، بعد خروج جيش محمد علي عام 1840 من اليمن والجزيرة العربية كلها، وبعد وصول طلائع الغزوة العثمانية الثانية، ابتداء من1849، والتي كانت قمتها حملة 1872 التي استكملت بها عملية الغزو.
ومنذ هذا الوقت اشتغلت البلاد بانتفاضات ثورية متلاحقة ضد الاحتلال التركي، حتى تم اجلاؤه مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
ولقد كانت حركة الاحداث التاريخية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر والى عام 1934 متجهة ـ موضوعياً ـ صوب تحقيق مهمة تاريخية عظمى وجليلة، هي بعث دولة اليمن المركزية الموحدة.
لقد كانت نضالات الشعب اليمني خلال هذه الحقبة الحيوية من تاريخ اليمن،والتي كانت مركزة ومصوبة ضد الاحتلال العثماني، والاستعمار البريطاني، والتوسع السعودي، والتجزئة الاقطاعية والتفكك العشائري، تدور ـ تاريخياً ـ حول محور واحد، وتستهدف غاية واحدة، الا هي محور اقامة دولة يمانية موحدة مستقلة.
ان هذه الحقيقة التاريخية والساطعة هي ما حاولت دراستها وبلورتها، والبرهنة عليها في رسالتي لنيل الدكتوراه (النضال من أجل اقامة دولة يمانية موحدة مستقلة منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى عام 1934) التي قدمتها عام 1963 إلى كلية الفلسفة التابعة لجامعة كارل ماركس في ليبرج بجمهورية المانيا الديمقراطية تحت اشراف الاستاذين الجليلين والمؤرخين القديرين برفسورماركوف ـ وبروفسور راتمان.
وهذا العمل الذي اقدمه هنا بين يدي هذه المقدمة والنبذة التاريخية يتكون من بابين "انتزعتهما انتزاعاً من قلب الرسالة البالغة في مجموعها ستة أبواب، ومما "هون" علي عملية (الاقتطاع) هذه انهما يشكلان معا وحدة موضوعية بالفعل، ويمثلان ركناً قائماً بعينه فيها، ويدللان بذاتهما على طبيعة الصراع الذي كان محتدما خلال هذه الحقبة بين حركة التوحيد والتحرير اليمنية المتجهة نحو اقامة دولة يمنية موحدة، وبين قوى التوسع الإقليمية العربية، وقوى التسلط الاستعمارية التي وقفت في وجهة هذه الحركة، وعملت على احباطها واجهاضها.
والدافع المباشر إلى "سلخ" هذا الجزء من الرسالة ـ الذي باستثناء اضافة بعض النصوص العربية المعززة والقليلة جداً، وبعض الاستطرادات في الصياغة العربية النادرة جداً يعتبر ترجمة حرفية دقيقة للنص الالماني، ـ والداعي إلى اصدراه بشكل مستقل في كتاب خاص تحت عنوان متميز "الجذور التاريخية للمطامع التوسعية في اليمن". هو ذلك الصدى السلبي لذلك البيان اليمني ـ السعودي الذي صدر في 17 ـ 3 ـ 1973 بشأن عسير ونجران.
لقد بين رد الفعل الغاضب لقوى البلاد الوطنية إلى أي مدى تتمتع الشعوب بذاكرة تاريخية لا تنسى، وبوعي وطني مدهش يفوق خيال حتى المؤرخين المختصين، ودلل إلى أي مدى يتوفر لدى الجماهير الشعبية احساس حاد ومرهف بالانتماء الوطني ـ حتى ولو لم تكن لديها معرفة علمية متخصصة عن تاريخها والتمسك بوحدتها الإقليمية والسياسية، وبحقها في النضال من اجلها، حتى تحققها، وتستكمل بها ذاتها الوطنية، وشخصيتها السياسية، واعتبارها التاريخي. وعندما كتبت رسالتي للدكتوراه منذ عشر سنوات ـ ومنها هذان البابان المتعلقان بعسير ونجران ـ بحافز اكاديمي، ودافع وطني لم يكن في خاطري حينئذ ماذا سيحدث بالضبط في المستقبل بشأن هذين الاقليمين اليمنين،وما إذا كانت قضيتهما ستصبح مشكلة سياسية ذات يوم.
وهمي بتقديم هذا الكتاب ـ وقد غدت قضية عسير ونجران محور اهتمام الرأي العام اليمني كله، وقد اصبحت قضية الوحدة اليمنية الشغل الشاغل لجماهير وقوى العشب الوطنية، وموضع رعاية الدول الوطنية العربية، ومن مهام الجامعة العربية أيضاً ـ همي هو الاسهام في تعزيز الوعي التاريخي، وتعميق الحس الوطني، بقضية وحدة الوطن اليمني، وتأكيد أن قضية تحقيق دولة اليمن الموحدة المركزية، الوطنية المستقلة، عملية تاريخية، بدأت حركتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولا تزال حتى الآن في حالة حركة ونمو وتبلور. وليس من المبالغة في شيء القول في انها اوشكت الآن على الدخول في مرحلة التجسد التاريخي والتحقق السياسي.


أحدث أقدم