متطلبات فهم الموجة الجديدة للفاعلين من غير الدول | المكتبة الدبلوماسية

متطلبات فهم الموجة الجديدة للفاعلين من غير الدول


د. خالد حنفي علي
      لعل تشبيه المفكر الأمريكي الشهير‮ "‬جوزيف ناي‮" ‬السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين بأنها خشبة مسرح،‮ ‬لم تعد فيه الدولة الممثل الوحيد، إذ بدأ يزاحمها ممثلون آخرون كالفاعلين من‮ ‬غير الدول، يشير إلي تعمق المنظور التعددي في العلاقات الدولية، والذي لا يختزل التفاعلات السياسية في الدولة، وإنما يراعي التأثيرات التي بات يحدثها الفاعلون من‮ ‬غير الدول‮ ‬(Non State Actors)‮ ‬في السياسات الداخلية والإقليمية والعالمية‮. ‬تلك النظرة الأكثر تعقيدا للعلاقات الدولية، مردها إلي ما أحدثه الفاعلون من‮ ‬غير الدول من تغييرات بنيوية في طبيعة النظام العالمي، والتي ترافقت مع انكشاف سيادة الدولة، وتداعي وظائفها الأمنية والتنموية والاجتماعية، وبالتالي بدت هناك بيئة ممهدة لتنامي تأثيرات الفاعلين من‮ ‬غير الدول، فضلا عن تغير أشكالهم، ومضامين تأثيراتهم‮.‬


لقد كان جل تأثيرات الموجة الأولي من الفاعلين‮ ‬غير الدول‮ (‬كشركات النفط متعدية الجنسية،‮ ‬والمنظمات الدولية‮ ‬غير الحكومية، وغيرها‮) ‬ذا طبيعة‮ "‬اختراقية تساومية‮" ‬للدولة، أي أن هؤلاء الفاعلين تجلت معظم تأثيراتهم في إضعاف سلطة الدولة علي إقليمها، وممارستها للوظائف المنوطة بها، من أجل خلق أنماط تساومية تجعل الدولة تقر بشراكاتهم في ممارسة تلك الوظائف‮.‬ وفي هذا الإطار، بدا النموذج الواضح لشركات النفط المتعدية الجنسية في المنطقة العربية التي تشاركت مع الحكومة في عوائد النفط، علاوة علي سماح الحكومات للمنظمات الدولية‮ ‬غير الحكومية بلعب أدوار إنسانية ومجتمعية، خاصة في مناطق الصراعات‮.‬

بيد أن تزايد انكشاف الدولة، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، متأثرة بضغوطات العولمة،‮ ‬وانتهاج الدول لسياسات اقتصادية‮ "‬نيو ليبرالية‮"‬، وتطور وسائل الاتصال والإنترنت، فضلا عن انتشار مستنسخات تنظيمات العنف العابرة للحدود في العالم،‮ ‬بعد الحادي عشر من سبتمبر، وتنامي الحراكات الثورية،‮ ‬خاصة في المنطقة العربية‮ - ‬كل ذلك أسهم في بلورة موجة جديدة من الفاعلين من‮ ‬غير الدول، مثل‮: ‬تنظيم القاعدة، وجوجل، والفضائيات العابرة للقومية، وغيرها لها من الملامح والتأثيرات علي الدولة ما هو أكثر تعقيدا وانتشارا‮.‬ ولعل أبرز تلك الملامح‮:‬

‮- ‬التحول من مساومة الدولة علي الشراكة في وظائفها إلي ما يمكن تسميته‮ "‬الاختراق الموازي‮"‬، أي أن هؤلاء الفاعلين الجدد لا ينافسون الدولة علي وظائفها فقط، بل يلعبون قوة موازية، ويفرضون قوانينهم الخاصة في بعض الأحيان‮. ‬فعلي سبيل المثال، فإن التنظيمات الجهادية المسلحة التي سيطرت علي مناطق انسحبت منها الدولة أصلا‮ -‬كما حدث في شمال مالي‮- ‬فرضت قوانينها الخاصة المتعلقة بالشريعة، وهو ما استدعي تدخلا عسكريا فرنسيا‮.‬ وارتباطا بذلك، أمست مستنسخات القاعدة لاعبا رئيسيا من‮ ‬غير الدول في العديد من الصراعات المسلحة، في نيجيريا،‮ ‬أو الجزائر وغيرهما‮.‬ وتمثلت أهداف تلك المستنسخات في إسقاط الدولة التي تراها تلك التنظيمات لا تطبق المعايير الإسلامية التي يرفعونها‮.‬

‮- ‬تسارع النفاذية العابرة للقومية للفاعلين عبر الدول، إذ استثمر أولئك الفاعلون معطيات العولمة، خاصة وسائل الاتصال،‮ ‬في دعم انتشار أفكار عبر الحدود‮.‬ فالحركات الثورية العربية ما كان لها أن تكتسب النفاذية الإقليمية إلا مع وجود فواعل عابرة للقومية،‮ ‬مثل شبكات الاتصال الاجتماعي‮ (‬الفيس بوك،‮ ‬وتويتر‮)‬، ووسائل الإعلام والفضائيات التي لعبت دورا في نقل الخبرات،‮ ‬وتعميق المحاكاة المجتمعية، لا سيما وأن ثمة بيئة متشابهة دعمت من النفاذية العابرة للقومية‮.‬

‮- ‬انتقال فاعلين من‮ ‬غير الدول من مربع الشارع إلي السلطة، مثلما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين ذات الطابع العابر للقومية التي تحولت من فاعل‮ ‬غير رسمي إلي الإمساك بزمام السلطة في مصر وتونس،‮ ‬بعد ثورات الربيع العربي، ليشير إلي عمق ما تتعرض له هذه الفواعل من تغير في طبيعة قضاياها‮.‬

‮- ‬إن الموجة الجديدة للفاعلين من‮ ‬غير الدول أمست أكثر تعبيرا عن إفرازات محلية وهوياتية، وليس فقط تشابكات عالمية، كما هو الحال في الموجة الأولي من الفاعلين‮.‬ علي أن الخصيصة العابرة للقومية أنتجت حراكا عابرا للحدود لتلك الإفرازات المحلية إلي فضاءات عالمية أوسع‮.‬ فروابط الألتراس ومشجعي الكرة،‮ ‬رغم أنها تعبير عن فئة مجتمعية من الشباب، فإنها تجاوزت الحدود لتشكل نمطا من الحركات الاحتجاجية العالمية‮.‬

‮- ‬إن ثمة اتجاها عالميا في المقابل يتعامل مع الموجة الجديدة من الفاعلين من‮ ‬غير الدول بمنطق الاحتواء،‮ ‬وإعطاء الشرعية لهم،‮ ‬إثر ضعف الدولة، والإقرار بدورهم في الاستقرار‮.‬ وفي هذا الإطار، يمكن فهم تنامي الإقرار العالمي بالحركات المسلحة المسيطرة علي بعض المناطق كحزب الله، وحركات التمرد في إفريقيا‮.‬

إن تلك الملامح التي تتشكل بسرعة علي أرض الواقع تتطلب أطرا تنظيرية مختلفة، وهو ما يسعي ملحق اتجاهات نظرية‮ "‬العابرون للقومية‮" ‬إلي اكتشافها تارة، ومراجعة الأطر النظرية للفاعلين من‮ ‬غير الدول تارة أخري، وطرح إشكاليات نظرية حول الموجة الجديدة من هؤلاء الفاعلين تارة ثالثة،‮ ‬تساعد في بناء نماذج نظرية تفسر سلوكياتهم‮.‬

من التهميش إلي التأثير المعقد‮:‬
ورغم أن الحركة التنظيرية في العلاقات الدولية أولت اهتماما ملحوظا للموجة الأولي من الفاعلين من‮ ‬غير الدول، فإن المعالجات النظرية للموجة الثانية من هؤلاء الفاعلين لا تزال في طور التشكل، خاصة أن‮ ‬غالبية الأدبيات في العلاقات الدولية لا تزال تنظر للفاعلين من‮ ‬غير الدول من منظور الدولة،‮ ‬اقترابا وابتعادا، وليس انطلاقا مما يمثله هؤلاء الفاعلون من تطور طبيعي لحركة المجتمعات البشرية‮. ‬فالمنظور التهميشي للفاعلين من‮ ‬غير الدول،‮ ‬الذي رفعت لواءه المدرسة الواقعية، لم يكن يدرك سوي الدولة كفاعل مهيمن، وأن السياسات الدولية هي كفاح من أجل القوة، حسبما يقول هانز مورجانثو،‮ ‬أحد رواد هذه المدرسة‮.‬ ورغم أن‮ "‬الواقعية الجديدة‮" ‬علي يد كينث والتز سعت إلي دور ثانوي للفاعلين من‮ ‬غير الدول،‮ ‬في إطار‮ "‬نظرية النظم‮"‬، بمعني وجود وحدات في النظام تؤثر في بعضها، فإنها رأت أن هيكل النظام الدولي يتغير فقط بتغير توزيع القوة، والأكثر قوة هو الذي يعرف النظام الدولي، وهو الدولة‮.‬

بيد أن التأثيرات المتنامية للجيل الأول من الفاعلين من‮ ‬غير الدول في بنية العلاقات الدولية، خاصة في عقد السبعينيات،‮ ‬دفعت إلي بزوغ‮ ‬منظور الاعتماد المتبادل في إطار المدرسة الليبرالية التي أفسحت بالتالي مكانا لتأثير المبادرات‮ ‬غير الرسمية في السياسة الدولية، علي أساس أنها بنت فرضياتها علي أن معظم اهتمامات الدول في سياستها الخارجية أصبحت تنصب علي قضايا التطور التقني والاقتصادي، وذلك علي حساب القضايا الأمنية، مما أدي إلي بروز مناخ من التفاهم والتعاون بين الدول‮. ‬وهنا، أسهم علماء أمثال جوزيف ناي،‮ ‬وروبرت كوهين،‮ ‬وصمويل هنتنجتون،‮ ‬في بناء فهم جديد في العلاقات الدولية لأدوار الفاعلين من‮ ‬غير الدول، عندما رأوا أن السياسة الدولية تتضمن كل التفاعلات السياسية بين الفاعلين المؤثرين في النظام الدولي، أيا كانت طبيعة الفاعل، سواء أكان فردا،‮ ‬أو منظمة،‮ ‬أو دولة، فالمهم أنه يملك الموارد التي تمكنه من التأثير‮. ‬وتعمقت هذه الرؤية في إطار نظريات أطلق عليها ما بعد وستفاليا في العلاقات الدولية، والتي سعت في المقابل إلي‮ "‬أنسنة العلاقات الدولية‮"‬، أي إعادة الاهتمام بالإنسان في كل المجالات‮.‬ وعمق من هذا الاتجاه ما أحدثته العولمة من تداعيات علي هيكل النظام الدولي، لعل أبرزها تراجع احتكار الدولة لوظائف أساسية لصالح المجتمع المدني، مما أدي إلي فرض قضايا وأجندة من قبل هذا الأخير، سواء فيما يتعلق باللاجئين، أو الفقر،‮ ‬أو حل الصراعات،‮ ‬أو التحول الديمقراطي‮.‬

وعلي ذلك،‮ ‬دعا مفكرون إلي ضرورة النظر للعلاقات الدولية علي أنها أكثر تعقيدا وتشابكا من مجرد الدولة،‮ ‬إذ إن مفاهيم النظريات التقليدية،‮ ‬والواقعية،‮ ‬والواقعية الجديدة،‮ ‬والسلوكية لم تعد كافية لفهم التحولات الجديدة في النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة‮.‬ ومن هنا،‮ ‬سعي الباحثون إلي إطلاق‮ "‬منظور التعقد‮" ‬في دراسة العلاقات الدولية عبر الخروج من الأطر المفاهيمية التقليدية التي أضحت عائقا أمام فهم التحولات في العالم المعاصر،‮ ‬حيث لم تعد أداة واحدة كافية لوصف التعقيد المتزايد لعالم تتضاعف مشاكله وتوتراته‮.‬ فجيمس روزناو،‮ ‬في هذا الإطار،‮ ‬قسم النظام العالمي إلي تكوين ثنائي، أولهما عالم الدولة، وهو مقنن له طقوسه،‮ ‬ويتألف من عدد محدود من اللاعبين المعروفين الذين يمكن التكهن بهم بدرجة أو بأخري‮.‬

أما الآخر،‮ ‬فهو عالم متعدد المراكز يتألف من عدد شبه مطلق من المشاركين،‮ ‬لديهم قدرة علي العمل الدولي المستقل،‮ ‬بصورة أو بأخري،‮ ‬عن الدولة التي يفترض أنهم يتبعونها‮.‬

تحولات دراماتيكية‮:‬
إن هذا التطور التنظيري العام لمدي تأثير الفاعلين من‮ ‬غير الدول في العلاقات الدولية،‮ ‬علي أهميته،‮ ‬سعي إلي دراسة تأثيرات أولئك الفاعلين ضمن فلك الدولة القومية، ولعل ذلك ما دفع إلي النظر في كثير من الأحيان للفاعلين من‮ ‬غير الدول علي أنهم مجرد تهديد لإحدي الوظائف التي تحتكرها الدولة،‮ ‬وهي الأمن، خاصة بعد تبني تنظيم القاعدة العابر للحدود تفجيرات‮ ‬11‮ ‬سبتمبر في الولايات المتحدة‮. ‬علي أن تلك النظرة باتت تحتاج إلي مراجعة، لا سيما وأن معطيات الصراعات في العالم تشير إلي اللجوء إلي أولئك الفاعلين في بعض الأحيان لتحقيق الاستقرار والحماية للمدنيين‮.‬ فمثلا، تعمل منظمة كنداء جنيف منذ عام‮ ‬2000‮ ‬في إفريقيا علي إشراك الفاعلين المسلحين من‮ ‬غير الدول في آليات الحماية بعناصرها المتعددة للمدنيين بمناطق الصراعات الإفريقية، علي أساس أن هؤلاء الفاعلين يحوزون شرعية مجتمعية،‮ ‬يستطيعون من خلالها إنفاذ عمليات الحماية‮.‬

كما أن الدولة ذاتها بدا أنها تتعرض لأزمات عديدة،‮ ‬دفعت البعض إلي التفكير في مراحل ما بعد الدولة‮.‬ فمثلا، ما وعدت به الدولة القومية في المنطقة العربية،‮ ‬عند قيامها في حقبة ما بعد الاستعمار،‮ ‬من وظائف تنموية،‮ ‬وأمنية،‮ ‬واجتماعية،‮ ‬وقضائية،‮ ‬لم يتحقق، بما جعل الفاعلين من‮ ‬غير الدول يتصدرون المشهد،‮ ‬باعتبارهم تعبيرا عن متطلبات مجتمعية‮. ‬وما نشوء تنظيمات دينية عابرة للقومية،‮ ‬كأحد نماذج الفاعلين من‮ ‬غير الدول، إلا تعبيرا عن عدم قدرة الدولة علي استيعاب الدين كمنظومة هوياتية ومجتمعية لا يمكن إغفالها‮. ‬كما أن الثورات العربية لا تعبر فقط عن فشل الأنظمة واستبدادها، بل عدم نجاح‮ "‬الدولة المستوردة‮" ‬من الغرب‮ - ‬علي حد تعبير برتران بادي‮- ‬في تنفيذ‮ "‬وعودها‮"‬،‮ ‬وتحولها إلي أداة إفقار للمجتمع في نماذج عدة‮. ‬

ومن هنا، فإن مراجعة الأطر النظرية للفاعلين من‮ ‬غير الدول،‮ ‬ودراسة تفاعلاتهم العابرة للقومية في ملحق اتجاهات نظرية، لهي محاولة للاستكشاف النظري الجاد في تلك الحقبة التي تمر بها منطقتنا العربية بعملية تغيير بعد الثورات،‮ ‬لا تزال قيد التشكل، والتي بات أولئك الفاعلون علي اختلاف أنماطهم مؤثرين أكثر من الدولة في بعض الأحيان، وينفذون عبر الحدود لتشكيل تأثيرات ذات طبيعة إقليمية ودولية‮. ‬ولذا،‮ ‬سعي الملحق إلي الإجابة علي استفهامات رئيسية من قبيل‮: ‬ما هي النظريات المفسرة لدور الفاعلين من‮ ‬غير الدول في مراحل ما بعد التغيير؟،‮ ‬وما هي الأنماط أو السمات الأكثر بروزا للفاعلين من‮ ‬غير الدول؟،‮ ‬وهل أعطت مراحل ما بعد التغيير دفعة لعمليات التشابك العابر للقومية بين أولئك الفاعلين؟،‮ ‬ثم ما مدي تأثير الفاعلين العابرين للقومية في الدولة،‮ ‬ثم الإقليم؟‮.‬

لقد سعي الملحق للإجابة علي تلك التساؤلات عبر النظر للفاعلين من خلال القضايا التي تشكل متكأ لشرعيتهم،‮ ‬وأداة لنفوذهم العابر للقومية،‮ ‬مثل الدين،‮ ‬والعنف،‮ ‬ووسائل الإعلام،‮ ‬ورأس المال،‮ ‬والهجرة‮.‬ وسبق ذلك مراجعة للأطر النظـرية للتفاعلات العابرة للقومية،‮ ‬ورافق التحليلات حزمة من المفاهيم والمصطلحات،‮ ‬والتي أثرت تحليل الظاهرة العابرة للقومية‮.‬


أحدث أقدم