على الرغم من استمرار المشكلات المزمنة كما هي، وإضافة مشكلات أخرى إليها
في عام 2012، فإن هذا العام سوف يجرى التأريخ له باعتباره عام بدء وقف
التدهور في اليمن، وذلك لو تم اجتيازالوضعية الراهنة بأمان. صحيح أن ملفات
الحراك الجنوبي، والحوثيين، والتنظيمات المسلحة للقاعدة وأنصار الشريعة، لا
تزال قائمة، وصحيح أن العنف قد ازداد كما ونوعا في هذا العام، دون تحديد
واضح لمصادره، وهناك حالة من الانفلات الأمني والاغتيالات، لكن هناك العديد
من الدلائل التي تشير إلى أن المسار الذي اختطه الرئيس الجديد يحرزنجاحات
مهمة. وإلى حد ما، يبتعد اليمن رويدا رويدا عن "حافة الهاوية". ويؤكد
الموقف الدولي والإقليمي رغبة الجميع في إبعاد اليمن عن السقوط في مستنقع
"الدولة الفاشلة"، بعدما كان هذا السيناريو أقرب إلى القدر المحتوم.
ملف الدولة والمؤسسة:
في العام المنصرم، جرى الانتقال السلمي للسلطة بمقتضى المبادرة الخليجية
وآلياتها التنفيذية، وانتخب النائب السابق (عبد ربه منصور هادي) رئيسا
للجمهورية بالتوافق الوطني في فبراير 2012. وجاء أداؤه في منصب الرئاسة
مفاجئا، فلقد ظل "هادي" لسنوات طويلة مكتفيا بموقع الظل كنائب للرئيس منذ
عام 1994، وظل البعض يشكك في قدرته على اتخاذ قرارات جريئة بالنظر إلى أنه
اكتفى بصلاحيات محدودة، ولم يكن له حضور سياسي ملحوظ .
ولكنه حين أصبح رئيسا، جاء أداؤه قويا وواثقا. لم يبدأ "هادي" معركته مع
أقطاب النظام السابق بضربة واحدة، عبر ثورة تصحيح تقتلع مراكز القوى، وإنما
تعامل على نحو تدريجي، مكنه مع نهاية عام 2012 من اقتلاع أغلب مراكز القوى
في النظام السابق من أبناء عائلة الرئيس السابق، وأشقائه، وأنجاله، وأنجال
أشقائه، التي تركزت قوتها في المؤسسات العسكرية، والأمنية،
والاستخباراتية، والداخلية، ومؤسسات الاقتصاد، فأصدر قرارات متتالية أطاحت
بهم وبمواقعهم تدريجيا من هذه المؤسسات.
ففي 7 أبريل 2012 ، أصدر الرئيس مجموعة من القرارات، تضمنت إبعاد الأخوين
غير الشقيقين لعلي عبدالله صالح(اللواء محمد صالح الأحمر، واللواء علي صالح
الأحمر) من قيادة القوات الجوية، ومن منصب مدير مكتب القائد الأعلى للقوات
المسلحة (على التوالي)، وقام بعزل ابن شقيق الرئيس السابق (العميدطارق
محمد عبدالله صالح)من قيادة الحرس الخاص، والنجل الثاني للرئيس صالح
(العقيد خالد علي عبدالله صالح) من قيادة اللواء الثالث مشاة، التابع للحرس
الجمهوري. وفي 21 مايو، قام بعزل ابن شقيقه (العميد عمار محمد عبدالله
صالح) من منصب وكيل جهاز الأمن القومي، وأقال اللواء محمد عبدالله القوسي،
زوج ابنة شقيق صالح من قيادة قوات النجدة. وفي 11 سبتمبر، أصدر مجموعة من
القرارات أزاحت عدداً آخر من رجالات صالح، فأقال اللواء علي الآنسي من
رئاسة جهاز الأمن القومي، ومن منصب مدير مكتب رئاسة الجمهورية، والعميد
مجاهد غشيم من منصب مدير الاستخبارات العسكرية، والدكتور عبدالهادي
الهمداني من منصب أمين عام رئاسة الجمهورية.
وكان أبرز وأهم ما أصدره الرئيس فى 19 ديسمبر 2012 قراره بإعادة هيكلة
الجيش ووزارة الدفاع ورئاسة الأركان، عبر تقسيم الجيش إلى أربعة أسلحة
(قوات برية، وبحرية، وجوية، وقوات حرس الحدود)، مع إنشاء ثلاثة أجهزة جديدة
هي: قوات الحماية الرئاسية، وقوات العمليات الخاصة، ومجموعة الصواريخ
والعمليات الخاصة. وكانت مجموعة الصواريخ والعمليات الخاصة من اختصاص ابن
الرئيس، العميد أحمد علي عبدالله صالح، كما صدر مرسوم رئاسي بإقالة العميد
يحيى محمد صالح، ابن شقيق الرئيس السابق، الرجل الثاني في قوات الأمن
المركزي والقائد الفعلي لها.
وهكذا، تمت تصفية أغلب مناصب عائلة الرئيس السابق، وإنهاء وضعية الأفرع
والأجهزة التي كانت تحكم قبضته وأسرته على النظام. ولم يفعل الرئيس هادي
ذلك على نحو عفوي، وإنما بناء على نصائح وتقارير مستشارين أمريكيين
وأردنيين.
ملف العنف والإمارات الإسلامية:
على جانب آخر، برزت معضلة تزايد العنف. ففي 2012 ، وقعت عمليات اغتيال بحق
74 ضابطاً عسكرياً وأمنياً، وحدث انفلات أمني شديد. مع ذلك، فقد أكد عام
2012 قدرة الدولة على مواجهة تحدي تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة.
فبضربات قوية وشاملة في عملية سميت "السيوف الذهبية"، تمكنت الدولة من
استعادة مدن وبلدات جنوبية كانت قد تكرست بها وضعية شبه انفصالية، وكان
تنظيما القاعدة وأنصار الشريعة قد سيطرا عليها، وأعلنا فيها إمارات إسلامية
تطبق الشريعة وتقيم الحدود على سكانها، في مدن وبلدات"زنجبار"، و"جعار"،
و"شقرة"، و"عزان".
ولكن على الرغم من النجاح السريع لعملية "السيوف الذهبية" في إسقاط وهدم
"الإمارات الإسلامية"، واستعادة سيطرة الجيش على هذه المناطق، فقد حصدت
أعمال العنف العشرات من الضحايا وكبار الشخصيات، ووجهت إلى قوى الأمن
السياسي، والاستخبارات، والجيش، والشرطة، والشخصيات المهمة، وبعض الوزراء،
ومنهم وزير الداخلية الذي نجا من الاغتيال المحقق في مرات عديدة، ووقعت
اغتيالات جماعية خلال عمليات انتحارية،كما جرى اختطاف أجانب بلغ عددهم 19
حتى نهاية العام، فضلا عن استهداف أنابيب الغاز والنفط وأبراج الكهرباء، مع
أعمال النهب وقطع الطرق بين المحافظات.
وكان أبرز ما خلفه عام 2012 تلك الحالة من الشكوك بشـأن بمصادر العنف.
فبينما كان تنظيما القاعدة وأنصار الشريعة محل الاتهامات سابقا، فقد امتدت
أصابع الاتهام عام 2012 إلى قوى مختلفة من عناصر النظام السابق والمؤسسة
العسكرية. وأشارت عمليات الاغتيال المحترفة والمنظمة لقيادات أمنية
وعسكرية، التي تتطلب معلومات واتصالات على قدر عال من الدقة والسرعة،
وقدرات لوجيستية متقدمة، إلى احتمال انخراط أطراف جديدة في العنف. وتخوف
البعض من احتمال تولد كيان تنظيمي شبكي كبير من قوى تضم تشكيلات مختلفة
ومنفلتة من مختلف التكوينات محل الصراع (كالقاعدة، وأنصار الشريعة،
والحوثيين، والحراك الجنوبي، وعناصر بمؤسستي الداخلية والأمن والجيش) يمارس
العنف على نطاق واسع.
ومن ثم، قد لا تقتصر المشكلة المقبلة في اليمن على تنظيمات معروفة
كالقاعدة وأنصار الشريعة، وإنما من هياكل وتنظيمات وبؤر أصغر تجمعها
المصلحة في إشاعة حالة الاضطراب والفوضى الراهنة. ويضيف إلى مشكلة العنف ما
ترافق مع الحرب على تنظيم القاعدة من هجمات الطائرات الأمريكية من دون
طيار على عناصر التنظيم من قواعد عسكرية أمريكية داخل اليمن ومن جيبوتي.
وقد كشف أخيرا عن أن الجيش الأمريكي يدفع ما يقرب من 40 مليون دولار
سنوياً لجيبوتي نظير إيجار قاعدةليمونيير التي تنطلق منها العمليات في
اليمن وغيرها من دول الإقليم.ورصد البعض أنه خلال عام 2012 لقي نحو 182
عنصراً من تنظيم القاعدة باليمن، و15 مدنيا مصرعهم، وأصيب العشرات من
التنظيم ومن المدنيين في 30 غارة لطائرة أمريكية بدون طيار على مناطق
متعددة باليمن. وكان الرئيس هادي قد أعلن أنه وقع كل عملية قامت بها
الطائرات الأمريكية من دون طيار، وهو ما عرضه للسخط من قبل البعض.
ملفا الحوثيين والحراك الجنوبي:
تظل أخطر التحديات على مستقبل اليمن تتعلق بالصراعات الكبرى التي تهدد
كيان الدولة ووحدة أراضيها، وهما ملفا "الحراك السلمي"في الجنوب،المطالب
بفك الارتباط مع الشمال، وعودة الدولة الجنوبية، و"الحوثيين" في صعدة،الذين
لم يشهد صراعهم مع الدولة وقوى يمنية أخرى تراجعا في عام 2012. فلم تؤد
الثورة إلى تراجع مطالب أو مواقف الحوثيين، وإنما دخلوا في صراع مع
السلفيين في بلدة دماج، ومع التجمع اليمني للإصلاح، وهو الصراع الذي أدى
إلى سقوط العديد من الضحايا.
أما على صعيد الحراك الجنوبي، فإنه على الرغم من أن صوت الثورة اليمنية
طغى على صوت الحركة الانفصالية في الجنوب، وأدت الثورة إلى تعزيز مواقع
المعتدلين داخل الحراك الجنوبي، فإن بعض أهم رموز الجنوبيين يتمسكون بمطلب
الانفصال، وفك الارتباط مع الشمال، وهو ما اشترطه مجلس التنسيق الجنوبي
الأعلى كشرط مسبق للمشاركة في الحوار الوطني، وهو أبرز ما يعترض الحوار
الوطني حتى الآن.
وقد وضع قادة من جنوب اليمن ثلاثة شروط للمشاركة في الحوار الوطني المرتقب
في فبراير المقبل، وهي: إقرار الحق في تقرير مصيرهم في مؤتمر الحوار
الوطني، وأن تعطى الأولوية في قيادة وحدات الجيش والأمن الموجودة في الجنوب
لأبناء محافظاته، وأن يكون الحوار بين شعبين. ويفترض أن تشمل قضايا الحوار
الوطني: القضية الجنوبية،وقضية صعدة (الحوثيين)،وبناء الدولة والدستور،
والإصلاح الإداري والقضائي والتشريعي، فضلا عن قضايا الحقوق والحريات
والأقليات،والفئات الاجتماعية كالأطفال والنساء والمهمشين، وذوي الاحتياجات
الخاصة، إلى جانب قضايا التنمية الشاملة والمتكاملة والمستدامة، إضافة إلى
عدة قضايا أخرى ذات أولوية، من بينها الإرهاب، وانتشار السلاح،
والثارات،وشح الموارد المائية، والتنوع، والتسامح
.
خلاصة:
هكذا -وبرغم التقدم المحرز الذي يدفعنا لوصف عام 2012 بعام "وقف التدهور"
في اليمن- يبقى المستقبل اليمني معلقا على مؤتمر الحوار الوطني في فبراير
المقبل. وبالتأكيد، فإن قضايا اليمن وملفاتها المزمنة لن تحل في حوار مهما
يطل أمده، ولكنه يضع لبنات أولى للتواصل والتفاهم بين القوى والأحزاب
والنخب القديمة والجديدة، عقب ثورة وظرف استثنائي في تاريخ اليمن، وهو ما
يمثل فرصة للوصول لتوافقات حول أسس الدولة الجديدة. ومن ثم، يمكن لنتائج
الحوار الوطني - لو انتهت بتوافقات ناجحة - مع الخطوات الجادة للرئيس هادي
بإنهاء الحكم العائلي، مع الدعم الإقليمي والدولي، أن توفر أهم فرصة
لاستئناف دولة الوحدة، في ظل دولة مدنية حديثة وعصرية، كثيرا ما مثلت الهدف
الأسمى لكل اليمنيين.
د. معتز سلامة:
رئيس وحدة الخليج بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
التسميات :
تحليلات سياسية