هل تعيد الانتفاضات العربية تعريف السياسة الأمريكية في المنطقة؟ | المكتبة الدبلوماسية

هل تعيد الانتفاضات العربية تعريف السياسة الأمريكية في المنطقة؟

      خلال الأشهر الأربعة الماضية، كشفت التطورات المتسارعة في المنطقة عن أن الأوضاع في العالم العربي، ومن ثم في الشرق الأوسط،‮ ‬لا تزال بعيدة كل البعد عن بلوغ‮ ‬حالة من الاستقرار،‮ ‬سواء فيما يتعلق باحتمالات امتداد محاولات التغيير الثوري إلى أنظمة عربية‮ -‬وغير عربية في الشرق الأوسط‮- ‬لم تتأثر حتى الآن برياح‮ "‬الربيع‮"‬،‮ ‬أو حتى فيما يتعلق بما آلت إليه الأوضاع في دول‮ "‬الربيع العربي‮" ‬التي شهدت انهيارا لأنظمتها الحاكمة قبل‮ "‬الربيع العربي‮". ‬شهدت المنطقة اضطرابات واسعة في تركيا معارضة لحكم حزب‮ "‬العدالة والتنمية‮".‬
       وفي السودان،‮ ‬تفجرت قبل أيام مظاهرات هي الأضخم في البلاد من انقلاب البشير عام‮ ‬1989‭.‬‮ ‬وفي إيران،‮ ‬جري تغيير سلمي عبر صناديق الانتخابات للنخبة المتشددة‮ "‬قوميا‮" ‬التي عبر عنها،‮ ‬على مدي ثماني سنوات،‮ ‬الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد وزمرته‮. ‬لكن الأكثر جسامة بين تطورات الأشهر الأربعة الماضية في العالم العربي كان هو الأزمة‮ "‬التاريخية‮" ‬التي تعرض لها نموذج الحكم الذي حاولت جماعة الإخوان المسلمين طرحه في كل من مصر تونس، رغم تباين محصلات تلك الأزمة بين انهيار هذا الحكم في مصر، ومحاولته المستميتة التوصل إلى حلول وسط في تونس‮. ‬ويرتبط بذلك، بدرجة أو بأخرى، أزمة الحكم المتصاعدة لحركة‮ "‬حماس‮" ‬في‮ ‬غزة،‮ ‬وفي علاقتها بـ‮ "‬الدولة‮" ‬المصرية،‮ ‬بعد انهيار حكم‮ "‬الإخوان‮".‬
       ومن دون الدخول في العوامل والأسباب التي أفضت لهذا الوضع المضطرب،‮ ‬والتي تغذي حالة التغير والتغيير المستمرة، حيث قاربت أعداد مختلفة من هذا الملحق العديد من تلك العوامل والأسباب، فضلا عن كون هذا السؤال هو موضوعا رئيسيا لأحد مقالات هذا العدد، فإن هذا الواقع يفرض بذاته تداعيات مختلفة على دور القوة العظمي في النظام الدولي حاليا، الولايات المتحدة الأمريكية‮. ‬بل إن تلك التداعيات تكشف بجلاء عن حدود ما تمتلكه هذه القوة العظمي من إمكانيات تأثير وضبط وسيطرة في إحدى أهم مناطق العالم من الناحية الاستراتيجية‮. ‬وبالتالي، فإن التفاعل بين حركة التغير والتغيير المتسارعة في المنطقة،‮ ‬وسياسات الولايات المتحدة إزاءها، يمثل اختبارا حقيقيا لقدرة القيادة التي تتمتع بها، وتحوزها، الولايات المتحدة في النظام العالمي الراهن‮.‬
       ورغم أننا قد حاولنا في عدد أكتوبر‮ ‬2012‮ ‬الاقتراب بشكل مقارن، في إطار هذا الملحق، من مواقف القوى الكبرى من ظاهرة‮ "‬الربيع العربي‮"‬، فإن تطورات الأشهر الأربعة الماضية كشفت بجلاء عن تحد كبير يواجه سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمي، على سلم تلك القوى الكبرى، في التعاطي مع متغيرات الربيع العربي وما تبعه‮. ‬ولذا،‮ ‬فإن هذا العدد يحاول أن يطرح تساؤلا رئيسيا حول طبيعة هذا التحدي، والعوامل التي تؤدي إلى ما يمكن وصفه بـ‮ "‬حالة عجز‮" ‬أمريكية عن ممارسة الضبط والسيطرة على تلك التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط، مما أفضي إلى مواقف وسياسات أمريكية مترددة وغير مبادرة في أغلب الحالات‮.‬
       ففي مواجهة صعود التيارات ذات المرجعية الإسلامية إلى الحكم، بدا أن الولايات المتحدة تحاول ممارسة سياسات احتواء،‮ ‬تعيد بها إنتاج نمط تحالفات جديدة مع القوى السياسية المعبرة عن هذه التيارات، تماثل ما كان قائما مع الأنظمة الاستبدادية التي تفجرت في وجهها الموجة الأولي من انتفاضات‮ "‬الربيع العربي‮". ‬ومع مؤشرات التوافق الأولية، حتى لو كان على مستوى تكتيكي، بين هذه الأنظمة الجديدة، خاصة في مصر، وأولويات المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، بدا، كذلك، أن هناك قبولا أمريكيا بانتشار هذا النموذج في الحكم في الحالات التي تشهد تغييرا في المنطقة، أو حتى المحتمل أن تشهد مثل هذا التغيير،‮ ‬وكان ذلك جليا في الحالة السورية‮.
      وربما كان المنطق الكامن وراء تلك السياسات الأمريكية هو افتراض أن تلك التيارات، رغم كونها ليست صاحبة الشعبية الغالبة بشكل مطلق على الشعوب العربية، فإنها الأكثر قدرة على الحشد والتعبئة،‮ ‬وعكس ما تتمتع به من شعبية،‮ ‬مقارنة بأي قوى سياسية أخرى‮. ‬ويكشف عن ذلك بوضوح عقد كامل من الدراسات الأكاديمية الأمريكية التي تركز على دور هذه التيارات،‮ ‬ومحددات سلوكها،‮ ‬منذ هجمات‮ ‬11‮ ‬سبتمبر‮ ‬2001،‮ ‬بل ويكشف عنه تاريخ أبعد نسبيا من التلاقي بين بعض التنظيمات المنتمية لهذا التيار والمصالح الأمريكية في أكثر من دولة،‮ ‬عبر الإقليم،‮ ‬وعبر أكثر من مرحلة تاريخية، خاصة في مواجهة أنظمة الحكم ذات النوعية القومية/اليسارية التي صبغت عددا من أنظمة ما بعد الاستقلال في العالم العربي‮.‬
سياسة الاحتواء تلك، بدا أنها تفشل، ليس بسبب العجز عن احتواء هذه التيارات، لكن بسبب ما يبدو أنه انهيار لما يمكن وصفه بـ‮ "‬أوهام‮" ‬أو‮ "‬أساطير‮" ‬الافتراضات الأمريكية، وهو الأمر الذي كشفت عنه تطورات الأشهر الأربعة الماضية، مثلما سبق أن أشرنا، حتى بلغ‮ ‬الأمر حدود أحد حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة وأكثرها استقرارا على مدي عقد كامل أيضا، ألا وهو تركيا‮. ‬
      وفي اللحظة الراهنة، تبدو السياسة الأمريكية، وتحديدا في الحالة المصرية، شديدة التردد بين خيارين،‮ ‬كلاهما صعب،‮ ‬أولهما‮: ‬الدفاع عمن تصورتهم حلفاء جددا ثبتت هشاشتهم السياسية بشكل كبير، والمخاطرة إذا تبنت هذا الموقف بمعاداة نظام حكم جديد آخذ في التأسس،‮ ‬ويحظي بدعم شعبي لا يمكن إنكاره،‮ ‬وكذلك دعم إقليمي من حلفاء الولايات المتحدة في الخليج‮. ‬ثانيهما‮:‬ انتهاج المنطق البراجماتي ذاته في التعاطي مع المنتصر على الأرض، مع المخاطرة هذه المرة على خسارة ثقة الجميع في أي علاقة تحالف معها، بعد أن سبق أن تخلت،‮ ‬قبل أقل من ثلاثة أعوام،‮ ‬عن حلفاء خدموا مصالحها الإقليمية على مدي عقود، وأبرزهم الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك‮. ‬وكان تخلي الولايات المتحدة عن مبارك، تحديدا، سببا في أزمة ثقة عميقة بينها وبين حلفائها في دول الخليج العربي‮. ‬ويبدو أن الولايات المتحدة تواجه بالفعل أزمة ليس فقط في اختيار هوية حلفائها الجدد،‮ ‬ولكن الأخطر في تحديد الأساس الذي يمكن أن تبني عليه أي علاقات تقارب مع أنظمة الحكم الجديدة في المنطقة‮.‬
       وتطرح تلك الأزمة سؤالا إشكاليا آخر، يتمثل في مدي التزام واشنطن بالديمقراطية شكلا وقيما‮.
‬      فرغم أن دعم صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم بدا أنه يحل مشكلة تقليدية واجهتها السياسة الأمريكية في العالم العربي، ألا وهو عدم دفاعها عن الديمقراطية في العديد من الدول العربية التي أسست مع حكامها وأنظمة الحكم فيها، على مدي عقود طويلة، ولا تزال في بعض الحالات، علاقات تحالف،‮ ‬رغم أن الديمقراطية لم تكن أحد مقومات وجود هؤلاء الحكام وتلك الأنظمة‮. ‬بدا أن مشهد الانتخابات،‮ ‬عقب انتفاضات الربيع العربي، وصعود تيارات إسلامية لم تبد ممانعة في حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، حلا مثاليا لتلك المعضلة‮. ‬
      لكن ما تكشف من عدم التزام هذه القوى الجديد بقيم الممارسة الديمقراطية الحقيقية من احترام للفصل بين السلطات،‮ ‬ولقيم المساواة الكاملة،‮ ‬وعدم الإقصاء والتوافق، وليس فقط إطارها الشكلي المتمثل في الانتخابات، وضع الولايات المتحدة في مأزق جديد،‮ ‬مع تصاعد حركة الاحتجاجات الشعبية ضد حكم هذه التيارات الإسلامية، حيث بدا أن دفاعها عن مجرد وجود إطار شكلي متمثل في الانتخابات، وهو الإطار ذاته الذي كثيرا ما أنكرت كونه معبرا عن ديمقراطية حقيقية في إيران،‮ ‬أو حتى في تجربة حركة حماس في فلسطين، مما يضع الولايات المتحدة في تعارض مع إرادة شعوب عربية تواقة لإرساء أنظمة حكم ديمقراطية بمعناها الحقيقي،‮ ‬شكلا ومضمونا‮.‬
       إضافة إلى مأزقي التعاطي مع الصعود الإسلامي إلى سدة الحكم،‮ ‬والمعارضة الشعبية التي ولدها، ومع مضمون التحول الديمقراطي المبتغي، فقد بدا كذلك أن المنافسة مع القوى الكبرى،‮ ‬ذات المصالح المتعارضة مع المصالح الأمريكية في المنطقة، سواء أكانت قوى كبرى، روسيا والصين، أم قوى إقليمية، إيران و"حزب الله‮" ‬اللبناني، تُعْجِز الولايات المتحدة عن إتمام عملية التغيير التي دفعت من أجلها في سوريا‮. ‬وفي الواقع، فإن أدوار القوى المنافسة بقدر ما أنها كانت معجزة للأهداف الأمريكية، بدا كذلك أنها في الوقت ذاته مخرج لمأزق آخر واجهته الولايات المتحدة في الحالة السورية، ألا وهو صعود أدوار قوى التيارات الجهادية الأكثر تطرفا،‮ ‬والتي بدأت تسيطر على مشهد القوى المعارضة في سوريا، وتفرض طابعا طائفيا للمواجهات المسلحة الدائرة فيها،‮ ‬الأمر الذي بات يهدد بنموذج انفجار طائفي يتجاوز ما شهدته الحالة العراقية، ويمتد عبر الإقليم إلى ثلاث أو أربع دول على الأقل،‮ ‬هي لبنان،‮ ‬وتركيا،‮ ‬والأردن، فضلا عن العراق ذاته‮.
‬      وبالتالي،‮ ‬فإن عجز الولايات المتحدة عن إيجاد السياق الملائم،‮ ‬والأدوات المقبولة لتحقيق أهدافها في سوريا، ربما وجد مخرجا له فيما طرحته القوى المنافسة في الحالة السورية من معادلة تتضمن بقاء النظام السوري،‮ ‬مع تقييد قدرته العسكرية،‮ ‬خاصة الاستراتيجية منها‮ (‬الأسلحة الكيميائية‮). ‬بعبارة أخرى، يبدو أن الولايات المتحدة تتجه لمقايضة تعزيز أمن إسرائيل،‮ ‬وإضعاف القدرات العسكرية السورية، ببقاء نظام بشار الأسد،‮ ‬مع إدخال إصلاحات عليه بضمانات دولية‮.‬
       يبدو من ذلك أن الولايات المتحدة تواجه معضلتين أخريين،‮ ‬تتعلق إحداهما بالتعاطي مع المنافسين الدوليين لها في المنطقة، والأخرى بإدارة الصراعات الطائفية التي يبدو أنها الأقرب للانفجار في أكثر من دولة عربية،‮ ‬حال تعزيز سبل التغيير السياسي الثوري فيها‮.‬
       خلاصة القول، من هذا العرض الموجز، إن الولايات المتحدة تواجه في الشرق الأوسط حاليا معضلة حقيقية في بناء سياسات تضمن لها مخرجات سياسية مستقرة من جهة، ولا تتعارض مع مصالحها الاستراتيجية من جهة أخرى‮. ‬وتلك المعضلة لا ترتبط فقط بالطبيعة الإشكالية للتغيرات الجارية في المنطقة في ذاتها، ولكن أيضا بأزمة القوة الأمريكية في توفير موارد الضبط الضرورية للتفاعلات،‮ ‬فضلا عن إطار الشرعية الكافي لتبرير أي سياسات ضبط تسعي إلى ممارستها لتوجيه حركة التغيير السياسي في المنطقة‮. ‬
       ولا‮ ‬يرتبط إطار الشرعية هذا في الواقع فقط بتوفير أسس الشرعية الدولية للتدخل المباشر في دول المنطقة وشئونها الداخلية،‮ ‬ولكن الأهم بتوفير أسس الشرعية ومكانتها للدول الجديدة الآخذة في التأسس في المنطقة‮. ‬حيث إن أسس الشرعية التقليدية التي أسستها الدولة العربية،‮ ‬في مرحلة ما بعد الاستقلال،‮ ‬والتي استندت أساسا إلى منطق الرعاية، انهارت بشكل كبير في أغلب الدول العربية،‮ ‬مع طغيان نظام الدولة/الوكيل التي تعمل كوسيط بين المركز الاقتصادي العالمي، والجماعات والقوى المحلية،‮ ‬خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين‮. ‬إن توفير أسس جديدة للشرعية للدولة الجديدة الساعية للبروز،‮ ‬عقب الربيع العربي، يمثل أخيرا إحدى المعضلات الكبرى للولايات المتحدة،‮ ‬إذا أرادت الاستمرار في ممارسة نفوذ مهيمن في المنطقة، أو أن تواجه بالضرورة احتمالات خيار الانسحاب من المنطقة‮.‬


(*) تقديم ملحق تحولات استراتيجية، مجلة السياسة الدولية ، العدد 194


Previous Post Next Post