لئن كانت اتفاقية فينا لسنة 1961 م هي الدالة على مبدأ حصانة الممثلين الدبلوماسيين في القانون الدولي الحديث ، إلا أن ذلك المبدأ لم يكن مقصورًا على القانون الدولي وحده ، بل رأين أن الشريعة الإسلامية أقرت ذلك واعترفت به ودعت إلى تحقيقه . وقد أطلق فقهاء الشريعة الإسلامية على ذلك المبدأ اسم(أمان الرسل) وهم يعنون بذلك إعطاء الأشخاص الدبلوماسيين وعائلاتهم وبقية أفراد البعثة الدبلوماسية امتيازات خاصة ، للمحافظة عليهم وتمكينهم من مباشرة أعمالهم براحة وسهولة.
ومما يميز الحصانة الشخصية للمبعوث الدبلوماسي من بين الحصانات الممنوحة له، أنها من أقدم أنواع الحصانات، وأن سائر الحصانات الأخرى تتفرع عنها .
وتتحقق الحصانة الشخصية في القانون الدولي العام بعدة صور منها :
- حرمة الاعتداء على شخص المبعوث الدبلوماسي وذاته ، فلا يقتل ولا يؤذى بجرح أو ضرب أو غيره من أنواع الأذى.
ومنها : عدم تعريضه للإهانة ، وأي نوع من أنواع الأذى النفسي ، بل يجب معاملته باحترام لائق خلاصة ذلك أّنه يحرم الاعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته ومما يندرج تحت مبدأ الحصانة الشخصية _أيضًا _ ما يتعلق بحماية منزله وحماية أوراقه ومراسلاته، والسماح له بحرية السفر والتنقل في إقليم الدولة.
وقد أكدت ذلك اتفاقية فينا سنة 1961 م فقد (نصت المادة 30 من هذه الاتفاقية في فقرتها الأولى على حرمة مسكن المبعوث،ونصت في الفقرة الثانية على حرمة الأشياء المتعلقة به من أموال ومستندات أو مراسلات).
ويعود الأساس القانوني لهذه الحصانات، كما أخذت بذلك تلك الاتفاقية السابقة إلى "نظريةالوظيفة"حيث قررت في الديباجة أن الغرض من الحصانات ليس تحقيق فائدة الأفراد ، بل ضمان الأداء الفعال لوظائف البعثات الدبلوماسية باعتبارها ممثلة للدول .
أما أصل الحصانة الشخصية للمثل الدبلوماسي في الشريعة الإسلامية ، فيعود إلى نصوص الشريعة الخالدة ونظامها العام المتمثل في عدة مباد ئ سامية منها: مبدأ احترام النفس الإنسانية ووجوب حمايتها، فقد ورد في القران الكريم والسنة النبوية المطهرة،ما يؤيد وجود هذا المبدأ ويدعمه.
أ- في القران الكريم :
1- يقول الله تعا لى : (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ). فهذه الآية الكريمة تقرر حرمة الاعتداء على النفس البشرية بغير حق لأن حق الحياة من أهم ما كفلته الشريعة الإسلامية من حقوق للبشر ، فهو هبة من الله تعالى للإنسان فعليه قبوله والمحافظة عليه ، فكل اعتداء على هذا الحق يعد جريمة عظيمة، وانتهاكًا صريحًا .
2- وقال تعالى : (من قتل نفس ًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا). فالنص القرآني يدل صراحة على اعتبار قتل النفس البشرية الواحدة دون وجه حق بمنزلة قتل الناس جميعًا،لأن الأصل المتفق عليه في الشرائع السماوية هو حرم ة قتل النفس البشرية بغير وجه حق.
يقول ابن العربي : "إن أهم قواعد الشرائع حماية الدماء من الاعتداء وحياطته بالقصاص كف ًا وردع ًا للظالمين والجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع، والأصول التي لا تختلف فيها الملل" لهذا فإن حق الحياة مقدس في الإسلام ،فلا يجوز انتقاصه وهدمه وهو مصون لكل مواطني الدولة الإسلامية من المسلمين وغيرهم ، وكذا يعد المعاهد أو المستأمن مصو نًا أيضًا ،وهو الذي يدخل أرض الدولة بعهد الأمان. وهذا ما ينطبق على الممثل الدبلوماسي الذي قبلت الدولة الإ سلامية بدخوله أرضها، وإقامته فيها، لأداء المهمة التي بعث من أجلها.
ب-أما نصوص السنة النبوية الدالة على حصانة الممثلين الدبلوماسيين الشخصية فمنها:
1- قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (من قتل معاهد ًا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا).
2- وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (ألا من قتل نفس ًا معاهد ة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد اخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة).
3- ومن التطبيقات العملية الدالة على حصانة الدبلوماسيين في السنة النبوية ، ما روي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – حيث قال : (جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال لهما : أتشهدان أنى رسول الله ، قالا نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله – صلى الله علية وسلم : آمنت بالله ورسوله ، لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما)( قال عبد الله بن مسعود :"فمضت السنة أن الرسل لا تقتل ".
4- وعن أبي رافع مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال :(بعثتني قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم –وقع في قلبي الإسلام ، فقلت يا رسول الله لا أرجع إليهم : قال إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرو د، ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع).
فهذه الأحاديث النبوية الشريفة صريحة الدلالة على وجوب حماية المعاهدين والمستأمن ين، ويلحق بهم كذلك الرسل والسفراء وجميع الممثلين الدبلوماسي ين الذين يقومون بنقل الوثائق وتبادلها وأداء الصفة التمثيلية بين الدول ، فالأحاديث الشريفة السابقة دالة – كما ر أينا – على وجوب حمايتهم حتى يسلموا الرسالة ويؤدوا مهمتهم . كما أن فيها دلي ً لا على حفظ العهد والوفاء به ولو كان لكافر ، ولذلك فإنه لا ي نبغي حبس السفير ،ولا التضييق عليه . فدخوله أرض الدولة بمنزلة أمان له فلا يجوز أن يحبس، بل يجب رده إلى موطنه، إن رأت الدولة ذلك ويلحق بحق الحياة ، كل الحقوق والحريات العامة ، كحرية الرأي والاجتهاد، والتملك ...، لأن منشأ ذلك هو الكرامة الإنسانية ، هذا المبدأ الذي أكده الإ سلام، وحث عليه وجعله أص ً لا للبشرية بمقتضى وصف الآدمية فيهم، امتثالا لقول الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم).
لقد ارتقت أحكام الشريعة الإسلامية وسمت فوق كل قواعد القانون الدولي حينما أجازت دخول المبعوثين السياسين إلى أرض الدولة الإسلامية، من دون حاجة إلى عقد أمان ، وذلك في حالة قيامهم ببعض المهمات الرسمية والاضطرارية ، من وساطة أو عقد هدنة ، فبمجرد دخول ذلك الدبلوماسي أرض الدولة ، وإثباته أنه مبعوث من قبل دولته برسالة يثبتها، أو وثيقة يحضرها، فيعد هذا الإجراء أمانا له .
يقول الإمام أبو يوسف: "إن الولاة إذا ما لاقوا رسو ً لا، يسألونه عن اسمه فإن قال : أنا رسول الملك بعثني إلى ملك المسلمين وهذا كتاب معي ،فإنه يصدق ولا سبيل عليه، ولا يتعرض له ".( وقد تقرر في الفقه الإسلامي ذلك المبدأ العظيم ،الذي ينص على أن أمان الرسل مقرر عرفا).
كما أن العرف هو العامل الأهم في إقرار النظام الدبلوماسي في القانون الدولي فذلك النظام بقي مستندًا إلى العرف حتى وقتنا الحاضر ، وأصبح مسلم ًا به من قبل الدول دون حاجة إلى تدوينه في معاهدة أو اتفاقية مما سبق نخلص إلى أن تمييز الممثليين الدبلوماسيين عن بقية المواطنين الأجانب أمر معترف به من قبل دول العالم كافة الآن، وإن كان الإسلام يسير في هذا الاتجاه ، إلا أن له نظرته الخاصة في مجال العقوبات والجرائم ،وهذا ما سنعرفه عند بحث الحصانة القضائية للممثلين الدبلوماسيين .
كما أن الإسلام قد تميز عن غيره من الأنظمة ، بالسماح لغ ير المسلمين الذين يريدون دخول أرض الدولة الإسلامية ، لأداء مهمة ، بتمكينهم من ذلك بكل أمان ، سواء كان الوافد مبعوثا دبلوماسيا، أم تاجرًا، أم طالب علم يريد التعرف على الإسلام ، ما دام أنه لا يشكل خطرا على المسلمين ، ودليل ذلك، قول الله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ).
وبهذا الصدد يقول الإمام الشربيني : "ولو وجد كافر بدارنا فقال دخلت لسماع كلام الله تعالى ، أو قال دخلت رسولا، أقال دخلت بأمان مسلم؛ يصح أمانه ولا يتعرض له" .
التسميات :
كتب دبلوماسية