يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما تزال غامضة النسبة للكثيرين، لاسيما فيما يتعلق المقطع الثاني من المصطلح؛ أي "الانتقالية" إذ يثور التساؤل هل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة؟
وهنا لابد من توضيح أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من
احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة.
أي أن مفهوم العدالة الانتقالية يعني الاستجابة للانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية. أي أنها تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان؛ سواء حدثت هذه التحولات فجأة أو على مدى عقود طويلة.بعبارة أخرى، يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما العدالة والانتقال، بحيث يعني: تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول.
وعلى الرغم من أن المفهوم ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن حضوره تكثف بشكل خاص منذ سبعينات القرن العشرين، فمنذ ذلك الحين شهد العالم أكثر من 30 تجربة للعدالة الانتقالية من أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين وبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.
وفي الدائرة العربية، تبرز تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة كمثال يستحق التقدير، لاسيما وأن هذه التجربة ارتبطت بشكل أساسي بتوفر إرادة سياسية شكلت أرضية للإصلاحات التي انخرط فيها المغرب منذ تسعينيات القرن الماضي، ويرى البعض أن القيمة الأساسية التي تميز التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية تتمثل في "عنصر المشروعية". وهو ما أثبت إمكانية تحقيق العدالة الانتقالية من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء وفتح ملفات الانتهاكات وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.
كما طرح موضوع العدالة الانتقالية بصفة مباشرة، من قبل هيئات رسمية في إطار ديناميات المصالحة الوطنية في كل من الجزائر والسودان و العراق. كما بدأ الموضوع يفرض نفسه في سياقات ذات صلة بتعزيز الديمقراطية وتثبيت الوحدة الوطنية في كل من البحرين و موريتانيا. وطرح الموضوع كإرهاصات، وكدعوات للتفكير، في سياقات التصدي لإشكالات التحول الديمقراطي والتفكير الاستراتيجي المرتبط بها، في كل من لبنان و اليمن. بل وبدأ الموضوع يظهر كإشكال للتفكير أو "كإغراء الأكاديمي" في أطروحات بعض النخب السياسية والحقوقية في كل من مصر و سوريا و الأردن.
وللتعرف بشكل تفصيلي على مفهوم العدالة الانتقالية قد يكون من الملائم التعرض للنقاط التالية:
التطور التاريخي للمفهوم وتطبيقاته:
يمكن من خلال استقراء واقع الممارسات والتطبيقات المختلفة لمفهوم العدالة الانتقالية الحديث عن مراحل ثلاث للعدالة الانتقالية، هي:المرحلة الأولى جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتمثلت بشكل أساسي في محاكمات نورمبرج، تمحورت العدالة الانتقالية خلال هذه المرحلة حول فكرة التجريم والمحاكمات الدولية المترتبة عليها. وتمثلت أهم ميكانيزمات عملها في اتفاقية الإبادة الجماعية التي تم إقرارها، وإرساء سوابق لم يعد من الممكن بعدها تبرير انتهاك حقوق الإنسان باسم الاستجابة للأوامر. في هذه المرحلة، شكل مرتكبو انتهاكات حقوق الإنسان مركز الاهتمام في مساع تحقيق العدالة.
وأثناء الحرب الباردة، ركدت جهود تحقيق العدالة الانتقالية واستمر ذلك حتى المرحلة الثانية والتي حدثت بعد انهيار الإتحاد السوفيتي والتغيرات السياسية المختلفة في دول أوروبا الشرقية وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي هذه المرحلة تم تطبيق مفهوم مُسيس وذا طابع محلي أو وطني من العدالة الاجتماعية ارتبط بالهياكل الرسمية للدولة، وهنا تجاوزت فكرة المحاكمات وتضمنت آليات أخرى مثل لجان الحقيقة، والتعويضات، أي إنه خلال هذه المرحلة صارت العدالة الانتقالية بمثابة حوار وطني بين الجناة والضحايا، وخلال هذه المرحلة برزت تجربة لجان الحقيقة في الأرجنتين وعدد من دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا.
لقد تطور المفهوم خلال الفترات الانتقالية التالية لحكم الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، جنوب أفريقيا بعد نظام الأبارتهايد وبعض الدول الأفريقية ودول شرق ووسط أوروبا في أعقاب الحرب الباردة. كان هناك توافق دولي على الحاجة لإجراءات العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الماضية، وهذا ما تزامن مع أهداف الدول والهيئات المانحة التي تطلبت وجود تطبيقا محكما لحكم القانون بما يسمح بالتنمية الاقتصادية.
بعبارة أخرى، أعطت الموجة الثالثة للديمقراطية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات زخما وحافزا جديدا للعدالة الانتقالية، انتقل به من كونه مفهوما رابطا بين المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي والعدالة (كما نشأ في أواخر الأربعينات)، إلى فضاء أوسع بحيث أضحى هذا المفهوم يتضمن منظورا أوسع يقوم على إعادة تقييم شامل للوصول بمجتمع ما في المرحلة الانتقالية إلى موقع آخر تعد الديمقراطية أحد أهدافه الأساسية.
ويعد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوجوسلافيا السابقة في 1993 بداية لمشهد سياسي جديد شمل المرحلة الثالثة للعدالة الانتقالية، إذ أدى تكرر النزاعات إلى تكرر حالات تطبيق تطبيق العدالة الانتقالية، كما ارتفعت الأصوات المنادية بالحد من الأخذ بمبدأ الحصانة ليصبح الاستثناء وليس القاعدة، وفي هذا السياق تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في 1994، ثم في 1998 تم إقرارا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وقد أثرت هذه التطورات في الكثير من اتفاقيات السلام التي عقدت بعد ذلك، والتي أشارت إلى المحاكمات الدولية باعتبارها جزءا من عملية التسوية السلمية؛ من ذلك اتفاقية أروشا المتعلقة ببوروندي، واتفاقية ليناس ماركوسيس الخاصة بساحل العاج. وفي هذه المرحلة، التي لا تزال مستمرة حتى الآن تتم الإحالة دائما إلى القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى العودة لاستلهام نموذج محاكمات نورمبرج، لاسيما مع دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية لحيز التنفيذ في 2004 وإقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
استراتيجيات تحقيق العدالة الانتقالية:
تشير التطبيقات الفعلية للمفهوم إلى أن أي برنامج لتحقيق العدالة الانتقالية عادة ما يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف تشمل: وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، التحقيق في الجرائم الماضية؛ تحديد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم، تعويض الضحايا؛ منع وقوع انتهاكات مستقبلية، الحفاظ على السلام الدائم، الترويج للمصالحة الفردية والوطنية.
ولتحقيق تلك الأهداف، تتبع العديد من الاستراتيجيات بعضها ذي صبغة قضائية وبعضها لا يحمل هذه الصبغة، هي:
الدعاوى الجنائية: وتشمل هذه تحقيقات قضائية مع المسئولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان؛ وكثيراً ما يركز المدعون تحقيقاتهم على من يعتقد أنهم يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية. ويمكن القول إن أول إعمال لهذه الآلية كان مع محاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وهي قد تتم على المستوى أو الإقليمي أو الدولي أو من قبل بعض الأجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون.
لجان الحقيقة: وهي هيئات غير قضائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة، وتعويض الضحايا وإحياء ذكراهم، وتقديم مقترحات لمنع تكرر الانتهاكات مستقبلا.
برامج التعويض أو جبر الضرر: وهذه مبادرات تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي؛ وتقوم عادة بتوزيع خليط من التعويضات المادية والرمزية على الضحايا، وقد تشمل هذه التعويضات المالية والاعتذارات الرسمية.
الإصلاح المؤسسي: وتستهدف إصلاح المؤسسات التي لعبت دورا في هذه الانتهاكات (غالبا القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية.. وغيرها)، وإلى جانب تطهير هذه الأجهزة من المسئولين غير الأكفاء والفاسدينِ، غالبا ما تشمل هذه الجهود تعديلات تشريعية وأحيانا دستورية.
كما يشير الواقع إلى وجود آليات أخرى من قبيل جهود تخليد الذكرى وتشمل إقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة للضحايا، وترفع مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي.
ويمكن أن تتم هذه الآليات على المستوى الوطني بشكل كامل، أو على المستوى الدولي أو على نحو مختلط أو هجين مثل الترتيبات الخاصة في سيراليون وتيمور الشرقية وكوسوفا، إذ يعد إنشاء الاستراتيجيات المختلطة أو الهجينة للعدالة الانتقالية استجابة منطقية للمشكلات التي تواجه الاستراتيجيات ذات الطابع الدولي مثل البعد الجغرافي والانفصال القيمي عن المجتمعات المعنية، ومن ثم فالاستراتيجيات الهجينة من المتوقع أن تكون أكثر قدرة على تحقيق المصالحة الوطنية والسلام الاجتماعي، لاسيما في حال اعتمادها على مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية قادرة على استيعاب الاختلافات في روايات الأطراف المختلفة للأعمال العدائية التي تكون هذه المجتمعات قد شهدتها.
من ناحية أخرى، لا تعمل آليات ومناهج العدالة الانتقالية بصورة منفصلة عن بعضها البعض إنما تعمل وفق رؤية تكاملية فيما بينها وقد تكون مكملة لبعضها البعض؛ فمثلا قد يعتبر البعض إن قول الحقيقة دون تعويضات خطوة بلا معنى، كما إن منح تعويضات مادية دون عمليات مكملة لقول الحقيقة والمكاشفة سيكون بنظر الضحايا محاولة لشراء صمتهم. كما إن تكامل عملية التعويض مع المحاكمات يمكن أن توفر جبرا للأضرار أكثر شمولا مما توفره كل على انفراد. وقد تحتاج التعويضات من جانب آخر إلي دعمها بواسطة الإصلاحات المؤسسية لإعلان الالتزام الرسمي بمراجعة الهياكل التي ساندت أو ارتكبت انتهاكات حقوق الإنسان.مع الأخذ في الحسبان إن النصب التذكارية غالباً ما تهدف إلي التعويض الرمزي والجبر المعنوي للأضرار.
وهنا لابد من توضيح أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من
احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة.
أي أن مفهوم العدالة الانتقالية يعني الاستجابة للانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية. أي أنها تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان؛ سواء حدثت هذه التحولات فجأة أو على مدى عقود طويلة.بعبارة أخرى، يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما العدالة والانتقال، بحيث يعني: تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول.
وعلى الرغم من أن المفهوم ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن حضوره تكثف بشكل خاص منذ سبعينات القرن العشرين، فمنذ ذلك الحين شهد العالم أكثر من 30 تجربة للعدالة الانتقالية من أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين وبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.
وفي الدائرة العربية، تبرز تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة كمثال يستحق التقدير، لاسيما وأن هذه التجربة ارتبطت بشكل أساسي بتوفر إرادة سياسية شكلت أرضية للإصلاحات التي انخرط فيها المغرب منذ تسعينيات القرن الماضي، ويرى البعض أن القيمة الأساسية التي تميز التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية تتمثل في "عنصر المشروعية". وهو ما أثبت إمكانية تحقيق العدالة الانتقالية من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء وفتح ملفات الانتهاكات وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.
كما طرح موضوع العدالة الانتقالية بصفة مباشرة، من قبل هيئات رسمية في إطار ديناميات المصالحة الوطنية في كل من الجزائر والسودان و العراق. كما بدأ الموضوع يفرض نفسه في سياقات ذات صلة بتعزيز الديمقراطية وتثبيت الوحدة الوطنية في كل من البحرين و موريتانيا. وطرح الموضوع كإرهاصات، وكدعوات للتفكير، في سياقات التصدي لإشكالات التحول الديمقراطي والتفكير الاستراتيجي المرتبط بها، في كل من لبنان و اليمن. بل وبدأ الموضوع يظهر كإشكال للتفكير أو "كإغراء الأكاديمي" في أطروحات بعض النخب السياسية والحقوقية في كل من مصر و سوريا و الأردن.
وللتعرف بشكل تفصيلي على مفهوم العدالة الانتقالية قد يكون من الملائم التعرض للنقاط التالية:
التطور التاريخي للمفهوم وتطبيقاته:
يمكن من خلال استقراء واقع الممارسات والتطبيقات المختلفة لمفهوم العدالة الانتقالية الحديث عن مراحل ثلاث للعدالة الانتقالية، هي:المرحلة الأولى جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتمثلت بشكل أساسي في محاكمات نورمبرج، تمحورت العدالة الانتقالية خلال هذه المرحلة حول فكرة التجريم والمحاكمات الدولية المترتبة عليها. وتمثلت أهم ميكانيزمات عملها في اتفاقية الإبادة الجماعية التي تم إقرارها، وإرساء سوابق لم يعد من الممكن بعدها تبرير انتهاك حقوق الإنسان باسم الاستجابة للأوامر. في هذه المرحلة، شكل مرتكبو انتهاكات حقوق الإنسان مركز الاهتمام في مساع تحقيق العدالة.
وأثناء الحرب الباردة، ركدت جهود تحقيق العدالة الانتقالية واستمر ذلك حتى المرحلة الثانية والتي حدثت بعد انهيار الإتحاد السوفيتي والتغيرات السياسية المختلفة في دول أوروبا الشرقية وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي هذه المرحلة تم تطبيق مفهوم مُسيس وذا طابع محلي أو وطني من العدالة الاجتماعية ارتبط بالهياكل الرسمية للدولة، وهنا تجاوزت فكرة المحاكمات وتضمنت آليات أخرى مثل لجان الحقيقة، والتعويضات، أي إنه خلال هذه المرحلة صارت العدالة الانتقالية بمثابة حوار وطني بين الجناة والضحايا، وخلال هذه المرحلة برزت تجربة لجان الحقيقة في الأرجنتين وعدد من دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا.
لقد تطور المفهوم خلال الفترات الانتقالية التالية لحكم الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، جنوب أفريقيا بعد نظام الأبارتهايد وبعض الدول الأفريقية ودول شرق ووسط أوروبا في أعقاب الحرب الباردة. كان هناك توافق دولي على الحاجة لإجراءات العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الماضية، وهذا ما تزامن مع أهداف الدول والهيئات المانحة التي تطلبت وجود تطبيقا محكما لحكم القانون بما يسمح بالتنمية الاقتصادية.
بعبارة أخرى، أعطت الموجة الثالثة للديمقراطية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات زخما وحافزا جديدا للعدالة الانتقالية، انتقل به من كونه مفهوما رابطا بين المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي والعدالة (كما نشأ في أواخر الأربعينات)، إلى فضاء أوسع بحيث أضحى هذا المفهوم يتضمن منظورا أوسع يقوم على إعادة تقييم شامل للوصول بمجتمع ما في المرحلة الانتقالية إلى موقع آخر تعد الديمقراطية أحد أهدافه الأساسية.
ويعد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوجوسلافيا السابقة في 1993 بداية لمشهد سياسي جديد شمل المرحلة الثالثة للعدالة الانتقالية، إذ أدى تكرر النزاعات إلى تكرر حالات تطبيق تطبيق العدالة الانتقالية، كما ارتفعت الأصوات المنادية بالحد من الأخذ بمبدأ الحصانة ليصبح الاستثناء وليس القاعدة، وفي هذا السياق تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في 1994، ثم في 1998 تم إقرارا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وقد أثرت هذه التطورات في الكثير من اتفاقيات السلام التي عقدت بعد ذلك، والتي أشارت إلى المحاكمات الدولية باعتبارها جزءا من عملية التسوية السلمية؛ من ذلك اتفاقية أروشا المتعلقة ببوروندي، واتفاقية ليناس ماركوسيس الخاصة بساحل العاج. وفي هذه المرحلة، التي لا تزال مستمرة حتى الآن تتم الإحالة دائما إلى القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى العودة لاستلهام نموذج محاكمات نورمبرج، لاسيما مع دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية لحيز التنفيذ في 2004 وإقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
استراتيجيات تحقيق العدالة الانتقالية:
تشير التطبيقات الفعلية للمفهوم إلى أن أي برنامج لتحقيق العدالة الانتقالية عادة ما يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف تشمل: وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، التحقيق في الجرائم الماضية؛ تحديد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم، تعويض الضحايا؛ منع وقوع انتهاكات مستقبلية، الحفاظ على السلام الدائم، الترويج للمصالحة الفردية والوطنية.
ولتحقيق تلك الأهداف، تتبع العديد من الاستراتيجيات بعضها ذي صبغة قضائية وبعضها لا يحمل هذه الصبغة، هي:
الدعاوى الجنائية: وتشمل هذه تحقيقات قضائية مع المسئولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان؛ وكثيراً ما يركز المدعون تحقيقاتهم على من يعتقد أنهم يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية. ويمكن القول إن أول إعمال لهذه الآلية كان مع محاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وهي قد تتم على المستوى أو الإقليمي أو الدولي أو من قبل بعض الأجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون.
لجان الحقيقة: وهي هيئات غير قضائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة، وتعويض الضحايا وإحياء ذكراهم، وتقديم مقترحات لمنع تكرر الانتهاكات مستقبلا.
برامج التعويض أو جبر الضرر: وهذه مبادرات تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي؛ وتقوم عادة بتوزيع خليط من التعويضات المادية والرمزية على الضحايا، وقد تشمل هذه التعويضات المالية والاعتذارات الرسمية.
الإصلاح المؤسسي: وتستهدف إصلاح المؤسسات التي لعبت دورا في هذه الانتهاكات (غالبا القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية.. وغيرها)، وإلى جانب تطهير هذه الأجهزة من المسئولين غير الأكفاء والفاسدينِ، غالبا ما تشمل هذه الجهود تعديلات تشريعية وأحيانا دستورية.
كما يشير الواقع إلى وجود آليات أخرى من قبيل جهود تخليد الذكرى وتشمل إقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة للضحايا، وترفع مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي.
ويمكن أن تتم هذه الآليات على المستوى الوطني بشكل كامل، أو على المستوى الدولي أو على نحو مختلط أو هجين مثل الترتيبات الخاصة في سيراليون وتيمور الشرقية وكوسوفا، إذ يعد إنشاء الاستراتيجيات المختلطة أو الهجينة للعدالة الانتقالية استجابة منطقية للمشكلات التي تواجه الاستراتيجيات ذات الطابع الدولي مثل البعد الجغرافي والانفصال القيمي عن المجتمعات المعنية، ومن ثم فالاستراتيجيات الهجينة من المتوقع أن تكون أكثر قدرة على تحقيق المصالحة الوطنية والسلام الاجتماعي، لاسيما في حال اعتمادها على مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية قادرة على استيعاب الاختلافات في روايات الأطراف المختلفة للأعمال العدائية التي تكون هذه المجتمعات قد شهدتها.
من ناحية أخرى، لا تعمل آليات ومناهج العدالة الانتقالية بصورة منفصلة عن بعضها البعض إنما تعمل وفق رؤية تكاملية فيما بينها وقد تكون مكملة لبعضها البعض؛ فمثلا قد يعتبر البعض إن قول الحقيقة دون تعويضات خطوة بلا معنى، كما إن منح تعويضات مادية دون عمليات مكملة لقول الحقيقة والمكاشفة سيكون بنظر الضحايا محاولة لشراء صمتهم. كما إن تكامل عملية التعويض مع المحاكمات يمكن أن توفر جبرا للأضرار أكثر شمولا مما توفره كل على انفراد. وقد تحتاج التعويضات من جانب آخر إلي دعمها بواسطة الإصلاحات المؤسسية لإعلان الالتزام الرسمي بمراجعة الهياكل التي ساندت أو ارتكبت انتهاكات حقوق الإنسان.مع الأخذ في الحسبان إن النصب التذكارية غالباً ما تهدف إلي التعويض الرمزي والجبر المعنوي للأضرار.
موقع العدالة الانتقالية على الخريطة المعرفية:
تنتمي دراسات العدالة الانتقالية بشكل تقليدي إلى حقل القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومع التطور في تطبيقات المفهوم تم توسيع مجالات دراسة المفهوم لتشمل العديد من الآليات والأهداف تنتمي للعديد من المجالات العلمية والبحثية. والآن يمتد الاهتمام بالعدالة الانتقالية عبر العديد من المجالات العلمية لاسيما مع إسهامات علماء القانون والسياسية والاجتماع والأنثروبولوجي والمؤرخين، ورجال دين، والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان، وتعكس هذه الممارسات والأجندات البحثية التطورات المستمرة في مفهوم العدالة الانتقالية، والظواهر المرتبطة به من قبيل جهود تحقيق العدالة، إشكالية المسؤولية/ الحصانة، ولجان الحقيقة، وجهود إعادة حكم القانون.
وبصفة عامة، ينقسم المفكرون والفلاسفة المعنيون بالعدالة الانتقالية (على اختلاف تخصصاتهم) حول اثنين من الروافد الثقافية؛ الأول الفكر الليبرالي لحقوق الإنسان، أما الثاني فهو الرافد الديني. ورغم تباينهما، يشترك الرافدان في العديد من الفرضيات والاستنتاجات، وإن كان لكل منهما نقاط تميزه بل وتوجد خلافات بينية في كل رافد.
يقوم النهج الليبرالي للعدالة الانتقالية على الميراث الفكري لكل من جون لوك وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل الداعي إلى المساواة والحرية، فضلا عن فكر جون رولز الداعي لعدالة توزيع الموارد الاقتصادية. وفيما يخص جرائم الماضي، يميز رواد الرافد الليبرالي ما بين نظريتين، أولاهما تركز على معاقبة مرتكبي الجرائم، في حين تركز الثانية على إعادة تأهيل الضحايا، والردع، وتحسين النظام الاجتماعي بصفة عامة.
أما الروافد الدينية للعدالة الانتقالية، فتعد "حقوق الإنسان" هدفا لها، ولكنه ليس المفهوم الأساسي المحرك، ولكن تعد "المصالحة" هي الفكرة التي تتلاقى حولها كل الروافد الدينية، وهو ما يعد أحد التطورات غير المتوقعة في الخطاب المتعلق بالعدالة الانتقالية. وإن كانت لتلك الروافد اختلافاتها البينية أيضا، فمثلا تعد حقوق الإنسان فكرة محورية بالنسبة للفكر الكاثوليكي وبعض الطوائف البروتستانتية واليهودية، إلا إن الاهتمام بها يقل في الإسلام والبوذية والهندوسية.
خارطة المفاهيم الشريكة:
يتناول حقل العدالة الانتقالية، عملية إعادة النظر في الأوضاع السياسية والقانونية والفلسفية في بلد ما في أعقاب حرب ما. وهو يثير جدليات كثيرة أهمها التعارض بين الرغبة في تحقيق الهدوء بعد الحرب والرغبة في محاكمة منتهكي حقوق الإنسان، والحاجة لإرساء قواعد ذات مصداقية لمحاكمة انتهاكات الماضي في مقابل القيود على عمل النظام العقابي والجنائي والقانون الدولي، فضلا عن إمكانية تحقيق المغفرة في الحياة السياسية، وعلى ذلك يمكن الدفع بأن العدالة الانتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان أو على الأقل تشكل جزءا منه.
ويلاحظ من متابعة الخطاب المتعلق بالعدالة الانتقالية أن هناك خارطة للتفاعلات بين هذا المفهوم، ومجموعة من المفاهيم التي تتقاطع معه في مجالات العمل، ويجدر التعرض لها على النحو التالي:
العدالة الانتقالية وبناء السلام: يستخدم "بناء السلام" كمفهوم شامل يتضمن مجموعة من الأنشطة أو الإجراءات المتعلقة بخلق الشروط الضرورية لتحقيق السلام المستدام في المجتمعات محل الصراعات، وتحديد ودعم الهياكل التي تسهم في تقوية وترسيخ السلم من أجل تجنب الارتداد إلى حالة الصراع. ومن أهم الإجراءات التي يشملها: إعادة توطين اللاجئين والمشردين داخلياً، والتسريح وإعادة إدماج المحاربين السابقين، ودعم عملية التطور الديموقراطى، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة تأسيس حكم القانون.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن المساحات المشتركة بين المفهومين تشمل برامج استعادة حكم الواقع فإن عدد كبير من عمليات بناء السلام تتعامل مع نشاطات العدالة الانتقالية، مثل الإدارات الدولية لبعض الأقاليم مثل UNMIK في كوسوفا وUNTAET في تيمور لسته إذ تولت تلك البعثات مسؤولية السلطات القضائية، وإدارات السجن والشرطة. كذلك بعثات الأمم المتحدة في السلفادور وجواتيمالا وليبريا وهايتي والتي تولت مهام دعم حكم القانون وحقوق الإنسان.
العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: يرجع تعبير"المصالحة الوطنية" إلى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديجول، وارتبط بشكل أساسي بضرورة تحمل مسؤولية محو ديون وجرائم الماضي التي وقعت تحت الاحتلال أو إبان حرب الجزائر، كما تحدث الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران عن هذا المفهوم باعتباره ضامن الوحدة الوطنية. بعد ذلك استخدم مانديلا هذا المفهوم في جنوب أفريقيا عندما كان ما يزال قابعاً في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، الذي سيتبع أولاً عودة منفيي المؤتمر الوطني الإفريقي ويطمح إلى مصالحة وطنية، من دونها سيكون البلد عرضةً لمزيد من الاحتراق وإراقة الدماء التي سيقف وراءها الانتقام بكل تأكيد. وتشمل المصالحة الوطنية الإجراءات والعمليات التي تكون ضرورية لإعادة بناء الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديمقراطية في الوقت ذاته. وبذا يمكن القول إن المصالحة هي أحد أهداف العدالة الانتقالية، بل هي في الواقع شكل من أشكال العدالة الانتقالية.
العدالة الانتقالية والنوع الاجتماعي/الجندر: يتم الربط بين هذين المفهومين بهدف تصميم وتطوير عمليات العدالة الانتقالية بحيث تخاطب انتهاكات حقوق الإنسان القائمة على النوع الاجتماعي خلال فترات الصراع العنيف أو الحكم الاستبدادي، خاصة وأن المرأة عادة ما تكون أكثر عرضة للانتهاكات، كما إن الإساءات الموجهة للمرأة أكثر عرضة للتجاهل والاستهانة بها في إطار المؤسسات السائدة. فغالبا ما يتم انتقاد العديد من آليات العدالة الانتقالية لأنها لم تأخذ بالنوع الاجتماعي خاصة في بداياتها، لاسيما مع مساهمة بعض التقاليد الاجتماعية والبنى الفكرية المحافظة والتشريعات الخصوصية في مزيد عرقلة مبادرات العدالة الانتقالية المرتبطة بالنوع في المجتمعات المعنية، لاسيما الدول العربية.
في هذا السياق غالبا ما تدعو مؤسسات المجتمع المدني إلى إعطاء المزيد من الانتباه لوضعية النساء في عمليات العدالة الانتقالية، ويصبح السؤال هو كيف يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية أن تمكن النساء، وأن تصحح الأوضاع التمييزية ضدهن في مجتمع ما؟ وهنا تتم الإشارة لحالة سيراليون للتذكير بأنه من الممكن أن يتم تصميم استراتيجيات العدالة الانتقالية بحيث تتعامل مع المشكلات الاجتماعية المختلفة ومنها عدم المساواة بين الرجل والمرأة بشكل ناجح.
التسميات :
كتب قانون