(دراسات حول أمن ومستقبل البحر الأحمر) سياسة اليمن فى البحر الأحمر. | المكتبة الدبلوماسية

(دراسات حول أمن ومستقبل البحر الأحمر) سياسة اليمن فى البحر الأحمر.

بقلم: السيد عليوة .

تحتل الجمهورية العربية اليمنية، رقعة جغرافية استراتيجية فى جنوب غرب شبه الجزيرة العربية تبلغ مساحتها نحو مائتى ألف كيلو متر مربع وتقع على مدخل البحر الأحمر، حيث يمتد طول الساحل اليمنى أكثر من 400 كم، وبعمق إلى الداخل أقل من 500كم، وهى على هذا النحو، أشبه بالمربع ذى الأهمية الاستراتيجية العظمى فى رقعة شطرنج المنطقة منطقة الشرق الأوسط.
إذن فليس من المبالغة القول، أن تاريخ اليمن الحديث، بدأ على سواحل البحر الأحمر، حين تم جلاء الأتراك عن اليمن عام 1919بطريق عدن وكان ذلك حين تلقى
والى صنعاء، محمود نديم، من الجنرال ستيوارت، والى عدن، برقية يطلب منه فيها تنفيذ نصوص معاهدة فرساى وكان قد سبق للإنجليز احتلال ميناء الحديدة، بالاتفاق مع الإدريس (حاكم ساحل تهامة) ثم تخلوا عنها له عام 1921 ولكن الإمام يحيى تمكن من احتلال الحديدة عام 1925 وطرد الإدريس منها.
وشهدت الفترة التالية، ابتداء من عام 1926، سلسلة من التطورات الدولية، والتفاعلات الإقليمية، عبرت عن نفسها فى إبرام المملكة المتوكلية اليمنية، عددا من المعاهدات والاتفاقات الدولية وكانت أول معاهدة مع دولة أجنبية فى ذلك العام هى إيطاليا التى كانت تسيطر على شطر من الساحل الأفريقى (مصوع) على البحر الأحمر كما كان من أبرز تلك المعاهدات اثنتان: الأولى مع بريطانيا فى فبراير 1934 أقرت الوضع الفعلى للحدود بين اليمن ومحمية عدن، والثانية معاهدة الطائف مع المملكة العربية السعودية فى نفس العام، والتى تم بمقتضاها تبيان الحدود بين البلدين بعد الهزيمة التى أنزلها أبن سعود بجيش الأمام يحيى، واحتلاله ميناء الحديدة، وكان ذلك على أثر الهجوم الذى شنته اليمن من الشمال، وأمير شرق الأردن من الجنوب، لطرد أبن سعود من الحجاز ويبدو أن هذا الهجوم كان متفقا عليه منذ عام 1932 بين الإمام والأمير عبد الله.
على أية حال، فقد شهدت هذه الفترة التى امتدت حتى قيام الجامعة العربية عام 1945 نزاعا بين ثلاثة معسكرات، تتنافس على زعامة العالم العربى وهى: معسكر الهاشميين الذين تركزوا فى الأردن والعراق، ومعسكر السعوديين الذين طرودا الهاشميين من شبه الجزيرة، ومعسكر المصريين الذين كانوا قد بدءوا يبدون بعض الاهتمام بالشئون العربية.  
وعقب اندلاع الصراع العربى الإسرائيلى، جاءت الخمسينات والستينات العاصفة فى التاريخ العربى المعاصر مع أحداثها الكبرى مثل تنامى المد القومى العربى، وصعود الناصرية، وتزايد النزعات الراديكالية والاشتراكية، وتفجر ثورة 26 سبتمبر 1962 فى اليمن والإطاحة بالإمامة وإقامة الجمهورية، واندلاع الحرب الأهلية فى اليمن، والنزاع المصرى السعودى هناك وكانت مياه البحر الأحمر ميدانا لكثير من عمليات التنافس الدولى وقتذاك وأخيرا قبلت حرب أكتوبر 1973 والتى كان البحر الأحمر سواء عند مدخله الجنوبى أو مخرجه الشمالى مسرحا لعمليات تلك الحرب بكل نتائجها على دول المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر، ومن بينها الجمهورية العربية اليمنية فلا ريب أن بؤرة الصراع الدولى، أخذت تنزلق عبر البحر الأحمر، من محور السويس فلسطين، لتتجه جنوبا شرقيا إلى منطقة الخليج، فضلا عن أن قوى عديدة أخذت تجوس فى مياه البحر الأحمر كل منها يحاول أن يلعب دور الفك المفترس وعلى هذا النحو بدأت اليمن، وغيرها من الدول المطلة على هذا البحر بدأت تدرك أن أمنها ورخاءها معرض للمد والجزر بفعل تلاطم
أمواجه. 
وكرد فعل لهذه التغيرات، يستطيع المرء أن يرصد تصاعدا ملحوظا فى السياسة الخارجية اليمنية بشأن البحر الأحمر، إذ تسجل الوثائق اهتماما متزايدا فى أحاديث وتصريحات المسئولين اليمنيين خلال السنوات الخمس الأخيرة (1973- 1977) . 
وحتى يمكن بحث السياسة اليمنية تجاه البحر الأحمر يغدو من المفيد تركيز الضوء على ثلاث حلقات متداخلة توضح الأولى معالم السياسة الخارجية للجمهورية العربية اليمنية، وتحدد الثانية موقع البحر الأحمر فى السياسة اليمنية وتتبع الثالثة الدور اليمنى فى البحر الأحمر كل ذلك فى إطار التفاعل مع المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية.

معالم السياسة الخارجية اليمنية:
فى غير مبالغة، يمكن الزعم بأن المقولة التى تنادى بأن السياسات الخارجية لمختلف الدول، تحمل من عناصر الاستمرار ما يفوق عناصر التغير هذه المقولة تكاد تنطبق على اليمن إلى حد كبير فمن يتابع السياسة اليمنية منذ عصور سحيقة، يلاحظ أثر الحتمية الجغرافية على مسار المنازعات والمحالفات التى دخلتها اليمن مع جيرانها شركاء البحر الأحمر صحيح أن وطأة هذه الحتمية قد خفت إلى درجة ملحوظة، بفعل التقدم التكنولوجى ومستلزماته، والتغير الاجتماعى وتطلعاته، والنمو الاقتصادى ومتطلباته، وهوية النظام السياسى ومناوراته، فضلا عن تنامى الموارد العربية، وتغير الموازين الدولية لكن ما زال هناك فى السياسة الخارجية اليمنية عرق ثابت بفعل مجموعة من المحددات الأساسية، تتمثل فى الاعتبارات الجغرافية والاستراتيجية والديموجرافية (السكانية) والارتباطات التاريخية بالمنطقة، ومدى ندرة الموارد والثروات.

وهذه الفرضية يمكن فحصها من خلال بعدين:


تطور السياسة الخارجية لليمن، وأهم المحددات التى تحكمها.
أولا: تطور العلاقات الخارجية لليمن:
إذا رجعنا إلى التاريخ البعيد، والموغل فى القدم، نجد أن الحكم فى اليمن قبل الإسلام، شهد ثلاث دول رئيسية هى: الدولة المعينية، والدولة السبأية، والدولة الحميرية وقامت الأولى ما بين القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن السابع قبل الميلاد أما الثانية فيقدر أنها بدأت من القرن التاسع حتى 115 ق.م حين قامت الدولة الثالثة وخلال تلك الفترة، امتدت علاقات الصراع والتعاون بين اليمن وجيرانها عبر البحر الأحمر فقد تمكن بعض الملوك الأحباش ذوى الأصل الحميرى اليمنى القديم) من حكم ساحلى البحر الأحمر أكثر من مرة فمثلا توجد الشطران تحت حكم الملكة بلقيس، التى كانت تسيطر على اليمن والحبشة، عندما تم لقاؤها بملك أورشليم سليمان الحكيم، فى أحد موانى البحر الأحمر، أبان ازدهار التعاون التجارى بين جنوب الجزيرة وشمالها بوساطة البحر الأحمر بحرا، والقوافل برا . 
ثم خاضت اليمن، منذ ذلك الحين، صراعا مريرا مع الدول المحيطة بها: الأحباش فى الغرب، والفرس فى الشرق كما تعقد الصراع الدينى بين الزرادشتية واليهودية والنصرانية وانتصرت اليهودية فى تلك المنافسة على النصرانية فى البداية (عهد ذى نواس عام 525 ميلادية) الذى اتسم باضطهاد النصارى، مما جعل ملوك الحبشة، يغزون اليمن، ويقيمون عليها حاكما نصرانيا، هو أبرهة الأشرم الحميرى، وتحول الحكم من اليهودية إلى النصرانية وظل سلطان ملوك الأحباش بوساطة المسيحية، مسيطرا على اليمن، إلى أن ثار عليهم أحد أبطال التاريخ العربى سيف بن ذى يزن، وحرر بلاده بعد أن استعان عليهم بالفرس وبعد طرد الأحباش بمعاونة الفرس ظلت البلاد فى تأرجح بين النفوذ الفارسى والحبشى، مع الغلبة لفارس، حتى عام 628 ميلادية (السادس للهجرة النبوية) حين اعتنق بازان، عامل الفرس على اليمن، الإسلام، وأسرع اليمنيون لاعتناقه دينا قوميا.
بيد أن اليمن لم تجن من التوسع الإسلامى خيرا كبيرا، ولم تستعد شيئا من ازدهارها ومجدها السابقين وتفسير ذلك، أن الإمبراطورية الإسلامية التى امتدت حدودها بسرعة إلى أطراف الدنيا المعمورة، كانت فى أشد الحاجة إلى أبنائها أصحاب الكفاءة، فكان اليمنيون، وهم العناصر الطموحة الممتازة من أبناء قطحان، هى التى رافقت الانتصارات الإسلامية، واستوطنت مناطقها الزاهرة، واحتكرت تجارتها الواسعة، واستثمرت أراضيها الزراعية . 

1- السياسة الخارجية فى عهد الإمامة:
على امتداد القرون السبعة التالية، ابتداء من القرن التاسع، حتى القرن التاسع عشر، تقاسمت اليمن الخلافات المذهبية والحروب الأهلية وجاء الغزو العثمانى بعد ذلك ليستثمر هذه الأوضاع وهكذا تعرضت اليمن لثلاث حملات عسكرية تركية فى أعوام 1538، 1569، 1849 وقد استمرت هذه الغزوة الأخيرة حتى عام 1911حين وقعوا صلحا مع الإمام يحيى بن حميد الدين وتلاه اضطرار الأتراك إلى الانسحاب، عقب الحرب العالمية الأولى، من اليمن عن طريق عدن، تلبية لأوامر الآستانة، بعد إبرام معاهدة فرساى 1919.
إلا أن هموم اليمن لم تقتصر على المنازعات الداخلية والاحتلال العثمانى، بل تحالف ضدها أيضا، تزايد المد الإمبريالى الأوروبى، ومحاولات الإمبراطوريات الاستعمارية تضم أجزاء من اليمن، سواء فى ذلك البرتغاليون والهولنديون ثم الفرنسيون والإيطاليون، وأخيرا الإنجليز وقد نجح الأخيرون، لأن الاستعمار البريطانى حصر همه فى السيطرة على جنوب اليمن، إذ أنه بعد أن احتلت إنجلترا ميناء عدن فى الجنوب عام 1839، استغلت لندن انشغال اليمن بمحاربة العثمانيين، وحرص الاستانة على عدم إغضاب الإنجليز، خوفا من الفرنسيين فى ذلك الحين، فبدأت بريطانيا العظمى بتوسيع سلطانها على المناطق المجاورة لعدن، وجميع البلدان التى تقع جنوب اليمن على طريق الهند من باب المندب إلى عمان، ولم تعف الجزر اليمنية من مخططها الاستعمارى ثم حاولت إنجلترا كما سبقت الإشارة أيضا عقب الحرب العظمى، احتلال الساحل التهامى على البحر الأحمر، فأنزلت بعض قواتها بعد الحرب مباشرة فى اللحية وفى الحديدة لكنها عادت عام 1919 للانسحاب من اللحية، وعام 1921 انسحبت نهائيا من ميناء الحديدة، واستقرت فى جزيرة كمران على مقربة من الحديدة وأخيرا حملت الإمام يحيى عام 1934 على توقيع معاهدة هدفت من ورائها إلى التمركز على الأراضى اليمنية فى الجنوب . غير أن المصادمات اليمنية البريطانية، ما لبثت أن تجددت، وبخاصة فى الخمسينات، فى ظل الانحسار العالمى للنفوذ الاستعمارى. 
ويلاحظ على العموم من استقراء هذه الفترة أن السياسة اليمنية درجت، فى مواجهتها لبريطانيا، على البحث عن مساندة وصداقة أقوى والد أعداء إنجلترا، فمثلما كانت إيطاليا فى العشرينات والثلاثينات أصبحت روسيا فى الخمسينات الصديق الدولى، ومصر الحليف المحلى لذلك أبرمت معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتى عام 1955 واتفاقية جدة مع كل من مصر والسعودية عام 1956. وإزاء هذه الظروف: الأطماع الإمبريالية البريطانية، وتصاعد قوة آل سعود فى شبه الجزيرة، والأنانية المفرطة لأسرة حميد الدين، فرضت هذه الأخيرة على البلاد حكما استبداديا، ينطوى على تخلف اقتصادى، وقمع سياسى، وضربت حولها سورا من العزلة عن العالم الخارجى. 
صحيح أن البلاد شهدت فى السنوات الأخيرة من حكم الإمام أحمد، بعض الانفتاح على العالم ولكن ذلك لم يكن إلا فى إطار سياسة الإمام الرامية إلى إحداث نوع من التوازن ضد جاريته القوتين: بريطانيا فى محمية عدن فى الجنوب، والسعودية فى الشمال وكانت هذه السياسة قد بدأت منذ عام 1957 لشراء أسلحة من الكتلة الشرقية، وتصعيد النزاع مع بريطانيا عقب هزيمة العدوان الثلاثى على مصر، وتوجت بدخول الإمام مع مصر (الجمهورية العربية المتحدة) فى اتحاد الدول العربية عام 1958 رغم محاولات الملك سعود أن يثنيه عن ذلك . 

2- السياسة الخارجية بعد ثورة 26 سبتمبر 1962: ترجع جذور ثورة 26 سبتمبر 1962 فى اليمن، إلى محاولات العناصر الوطنية والإصلاحية فى البلاد التمرد ضد الإمام يحيى عام 1948، والتى عادت إلى الظهور مرة ثانية ضد الإمام أحمد فى بداية الستينات، حين تمردت بعد القبائل عام 1960 كما جرت عام 1961 محاولة لاغتيال الإمام وفى 19سبتمبر 1962، أعلن فى صنعاء نبأ وفاة الإمام أحمد، وتولى أبنه سيف الإسلام البدر منصب الإمامة من بعده ولم يمر أسبوع واحد على تولية الإمام الجديد، حتى أطاح به انقلاب عسكرى فى 26 سبتمبر . 
قاد الانقلاب عبد الله السلال القائد العام للحرس الملكى، والذى كان ضالعا فى محاولات سابقة لتغيير نظام الحكم وأعلن قادة الانقلاب، أن حركتهم قامت ضد الحكم الفردى المطلق، وللقضاء على النفوذ الأجنبى، وأنها تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والوحدة العربية، والتزام سياسة عدم الانحياز. الخ. (10)
وسرعان ما أعلن الثوار فى اليمن، إقامة الجمهورية فى البلاد، واعترف الاتحاد السوفيتى بهذا التغيير الحكومة فى 28 سبتمبر 1962 وفى اليوم التالى مباشرة، اعترفت به الجمهورية العربية المتحدة وبدأت أزمة اليمن فى أبعادها الدولية، مع بداية أكتوبر 1962 ففى الأول من أكتوبر أعلن الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، أن بلاده تعارض أى تدخل خارجى فى شئون اليمن وكان ذلك إشارة إلى تهديدات السعودية والأردن بالتدخل فى اليمن، وأعقب ذلك بإعلانه يوم 4 أكتوبر، أن الجمهورية العربية المتحدة، سوف تتحمل التزاماتها التى نصت عليها اتفاقية جدة المعقودة فى 21 أبريل 1956 بين مصر والسعودية وكانت تلك الاتفاقية، تنص على أنه فى حالة تعرض استقلال إحدى الدول الأطراف فى الاتفاقية، أو سلامتها الإقليمية لتهديد خارجى، فإن الدولتين الأخريين تتخذان، على الفور، كافة الإجراءات الدفاعية والوقائية التى يستلزمها هذا الموقف وبعد ذلك بأيام، بدأ وصول القوات والمعدات العسكرية المصرية إلى اليمن وفى الجهة المقابلة، أعلنت الكومة السعودية، مساندتها الكاملة للحكومة اليمنية الملكية، على نفس الأساس القانونى الذى استندت إليه مصر، لتوسيع تدخلها العسكرى وفى 6 نوفمبر 1962 قطعت حكومة السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية العربية المتحدة، بعد أن اتهمتها بالإغارة بطيرانها على القرى السعودية المتاخمة لحدود اليمن، ثم أعلن بعد ذلك بيومين، إبرام تحالف عسكرى جديد بين السعودية والأردن ومن جهة أخرى، أبرم حلف جديد للدفاع المشترك بين الجمهورية العربية المتحدة وبين اليمن وتم التوقيع عليه فى صنعاء يوم 10 نوفمبر 1962 وهكذا أصبح الموقف العام فى اليمن، بعد الانقلاب العسكرى، يتخذ الصورة الآتية: صراع مسلح بين الملكيين والجمهوريين، وتقوم كل من السعودية والأردن بمساندة الفريق الأول بالسلاح والإمدادات والأفراد المسلحين المتسللين عبر الحدود المشتركة اليمنية السعودية، بينما تحارب قوات الجمهورية العربية المتحدة إلى جانب العناصر الجمهورية اليمنية، بلا إخفاء ولا مواربة (11).

أى أن الاستقطاب بين الأقطار العربية المتنافسة، والمطلة على البحر الأحمر، بلغ ذروته وقتذاك فكانت السعودية والأردن فى جانب، ومصر واليمن فى الجانب الآخر ومما يلفت النظر، أن السياسة الخارجية ليمن الثورة، كانت بمثابة المعجل الكيماوى فى عملية التفاعل السياسى بالمنطقة.
صحيح أن بعضهم يرى أنه كانت هناك علاقة من التبعية بين مصر واليمن حينذاك فقد جاء فى تقرير قدمه السكرتير العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن بشأن تدهور الوضع العام فى اليمن أن التبعية للخارج وبصفة خاصة ج. ع. م التى تعتبر نفسها مدعوة لمساعدة اليمن فى أوقات شدته، إنما تمنع واقعيا أى تقدم إيجابى، سواء فى العلاقات بين السعودية و. ج. ع. م، أو بين السعودية والجمهورية اليمنية (12).
وفى نفس هذا الاتجاه، يرى بعض الباحثين أن اليمنيين كانوا يحاولون الاستقلال بسياستهم عن مصر، ولكن عبد الناصر لم يكن يترك لهم حرية السياسة الخارجية، فلقد اجتمع بعض الملكيين والجمهوريين معا لإيجاد حل فأغضب ذلك فى نظر الباحثين كلا من مصر والسعودية . 
لكن التحليل الدقيق للعلاقات اليمنية المصرية فى تلك الفترة، يكشف قدرا من وجود الظاهرة التى يسميها علماء العلاقات الدولية قوة الضعف والتى تتلخص فيما يتاح للطرف الأضعف فى العلاقة من ممارسة الضغط على الطرف الأقوى، وذلك بحكم ما ينشأ بينهما من اعتماد متبادل بحيث يمكن القول، بأن الجانب اليمنى مارس ضغوطا متعددة على الجانب المصرى، بحكم انغماس قوات الأخير فى القتال بصورة مكثفة، وذلك على النحو الذى أفسد محاولات مصر المتكررة، الخروج من اليمن، سواء فى مؤتمر القمة العربى الأول عام 1964 أو فى محادثات جدة بين عبد الناصر وفيصل (24 أغسطس 1965) أو محاولات تقليص وسحب القوات المصرية خلال الفترة سبتمبر - ديسمبر 1965.
على أية حال، فقد حدث فى أوائل 1967 أن تدهورت العلاقات بين الجمهورية اليمنية وبعض الدول العربية وهكذا تم يوم 24 يناير ترحيل الأعضاء السعوديين من لجنة السلام المشتركة، بتهمة التآمر ضد الجمهورية، ثم أعلنت كل من الحكومة التونسية والحكومة الأردنية، سحب اعترافهما بالحكومات الجمهورية فى اليمن فى 14، 18 فبراير على التوالى ثم كانت هزيمة يونيو 1967 الأمر الذى كان له أبعد الأثر على الموقف العام فى اليمن فلقد بادرت الجمهورية العربية المتحدة، بسحب الجزء الأكبر من قواتها المرابطة فى اليمن، إلى أراضيها، لمواجهة العدوان الإسرائيلى.
وبعد التقارب المصرى السعودى عقب مؤتمر الخرطوم فى أغسطس 1967، وانسحاب القوات المصرية فى أكتوبر، حدث انقلاب أطاح بحكومة السلال يوم 4 نوفمبر من نفس العام وجاءت الحكومة الجديدة، لتعلن أن المصالحة الوطنية اليمنية، لن تتم إلا من خلال جهود اللجنة التلاثية، التى ينبغى أن يقتصر دورها على تحسين العلاقات بين السعودية واليمن، تلك العلاقات التى ساءت إلى أبعد حد بعد انسحاب القوات المصرية، ذلك أن الجمهورية اليمنية اتهمت السعودية بتزايد مساعداتها للملكين ضد حكومة صنعاء كما اتهمت السعودية الاتحاد السوفيتى، بالتدخل فى شئون منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية.
وأخيرا ظهرت بوادر التسوية السلمية للحرب الأهلية فى أوائل عام 1969، نتيجة لعدد من التطورات، ومنها محاولات لقلب نظام الحكم الجمهورى فى اليمن، قامت بها عناصر مضادة للاتجاه التوفيقى السلمى فى الأزمة، وتمت تصفيتها وإنهاؤها، كما تحالف بعض القبائل الملكية مع الحكومة الجمهورية، بعد أن فشل حصارها لصنعاء كذلك بدأت السعودية فى إيقاف مساعداتها للملكين وفى 26 مارس 1970، عقب انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية بجدة، اتفق الجانبان، الملكى والجمهورى، على إنهاء الحرب الأهلية، على أن يتولى الملكيون عددا من المناصب الرئيسية فى الدولة، على ألا يسمح للإمام المخلوع بالعودة ونظرا لتزايد الاعتماد على السوفييت والكتلة الشرقية بدأت حكومة الإيريانى والعمرى فى انتهاج سياسة جديدة غير معادية للسعودية، وتقارب مع الدول الغربية، وذلك بهدف موازنة العلاقات مع السوفييت (14). حتى أننا نجد كاتبا ذا وجهة نظر ماركسية يصف الأوضاع التى قامت بعد 1971 بأنها دولة الثورة المضادة، اتسمت بنظام سياسى قبلى، ذى سلطة مركزية ضعيفة، لا يعرف الأحزاب السياسية واقتصاد متدهور على الرغم من تغيرات، ما بعد الثورة، وذلك بسبب المطالبات المالية لشيوخ القبائل، وإضرار الحرب، وسنوات الجفاف، فضلا عن أنها اتسمت فى المجال الخارجى بتبعية للسعودية، وعداء لعدن، وازدهار للعلاقات مع الغرب وإيران، وتدهور العلاقات مع البلاد الشيوعية (15).
3- السياسة الخارجية بعد حركة التصحيح فى 13يونيو 1974:
ورث النظام الجمهورى بعد استقراره، فى أعقاب فشل القبائل الملكية فى حصارها لصنعاء عام 1970، أوضاعا صعبة، تولدت عن ثلاثة جوانب: الأول ما تخلف عن اليمن الأمامية من أوضاع الفقر والتخلف والفساد الداخلى والرشوة وآثار العزلة الطويلة عن العالم المعاصر، والثانية ما تمخض عن الحرب الأهلية من تفكك داخلى وتقوية للمؤسسة القبلية فى مواجهة الجماعات الجديدة من الضباط والعسكريين والمثقفين والثالثة ما أسفر عنه التغير الملموس فى خريطة الصراعات الإقليمية، وبالأخص عقب استقلال عدن، وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية لشعبية عام 1967، وتصاعد نفوذ المملكة العربية السعودية، بسبب ثروتها البترولية الضخمة، ومن ثم نشب صراع سياسى ثلاثى، تحاول فيه اليمن الجنوبية دفع اليمن الشمالية إلى السير فى طريقها الشورى، وتسعى فيه السعودية إلى جذب اليمن إلى فلكها، وفى ذات الوقت، كان الخط الثابت فى السياسة اليمنية، هو اعتبار أن عدن ميناؤها الطبيعى والتاريخى على خليج عدن والمحيط الهندى، وأن أراضى الجنوب جزء لا يتجزأ من اليمن.
وقد حدث فى عام1971 أن تدهورت العلاقات بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، نتيجة للسياسات المتعارضة التى اتبعتها كل من الدولتين العربييتن المتجاورتين هذا على الرغم من الاجتماع الذى تم فى تعز يومى 25، 26 نوفمبر 1970 بين زعماء البلدين، والذى اتفقوا خلاله، على اتخاذ الإجراءات الأولية اللازمة لإقامة اتحاد فيدرالى بين اليمن الجنوبية واليمن الشمالية, إلا أن صدامات الحدود بين البلدين، بدأت فى فبراير ومايو 1972، ثم تصاعدت على نطاق واسع، فى سبتمبر من ذلك العام، ثم اجتمع فى 21 أكتوبر بالقاهرة الوفدان الممثلان لليمن الشمالية واليمن الجنوبية وبعد مباحثات طويلة وشاقة، وقع الجانبان على اتفاق سلام، وعلى اتفاقية اتحادية بين البلدين، فى يوم 28 أكتوبر وقد نص اتفاق السلام على إنهاء كافة صور تركيز القوات فى مناطق الحدود بين البلدين وإخلاء كافة المناطق التى احتلت فى الاشتباكات التى وقعت بين قواتهما، وإعادة فتح مناطق الحدود بينهما، وإعادة توطين جميع اللاجئين الذين يرغبون فى العودة إلى بلادهم، مع حظر كل الأنشطة الفدائية المتبادلة بين البلدين (16). والواقع أن هذه الأوضاع، مهدت السبيل أمام الحكومة الجديدة التى شكلها مجلس القيادة عقب الانقلاب الذى حدث يوم 13 يونية 1974 لكى تنتهج سياسة متوازنة، تستهدف تنويع علاقاتها بدول المنطقة حتى أن بعضهم كتب يقول أن المقدم الحمدى الرئيس اليمنى الراحل لم يتردد فى استغلال التنافس بين إيران والسعودية من جهة، وبين السعودية والعراق من جهة أخرى (17).
ثانيا: محددات السياسة الخارجية اليمنية:
تتحرك السياسة الخارجية اليمنية كما سبقت الإشارة فى مختلف الاتجاهات فى اتجاه العالم العربى، وفى اتجاه دول حوض البحر الأحمر، وفى اتجاه الجزيرة العربية وأقطار الخليج البترولية بل إنها يممت وجهها شطر الاتحاد السوفيتى طورا، وشطر الصين طورا آخر، وشطر الغرب أحيانا ولكن هذه الحركة ليس خبط عشواء لا منطق لها، فإن المتأمل فى مسيرة العلاقات الدولية لليمن، يجد أنه قد حكمتها أربعة محددات رئيسية هى: الموقع الجغرافى، الثقل الديموجرافى للسكان، الحاجة إلى التنمية الاقتصادية، والمركز الجيوبوليتكى لليمن فى النظام الإقليمى للشرق الأوسط.
1- الموقع الجغرافى:
تقع اليمن فى نقطة استراتيجية هامة، فهى تهيمن على المنفذ الجنوبى للبحر الأحمر من باب المندب، وتطل على المحيط الهندى من عدن، وتلاصق أفريقيا من جهة الصومال (لا يزيد عرض باب المندب على 15ميلا) وبهذا احتلت اليمن موقعا جغرافيا ممتازا على طريق الملاحة العالمية منذ أقدم العصور وإذا أضيف إلى هذا الرياح الموسمية الصيفية، واتجاهها جنوبى غربى، والرياح الموسمية الشتوية، واتجاهها شمالى شرقى، جعل بعض سكان اليمن يحترفون الملاحة، ويعملون فى التجارة، مستعينين بهذه الرياح شتاء لنقلهم إلى الساحل الشرقى لأفريقيا، وصيفا للعودة منها إلى الشؤاطى الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، وتعتبر هذه من بين الرحلات التى أشار إليها القرآن الكريم رحلة الشتاء والصيف (18).
وكانت للخصائص الجغرافية الطبيعية والبشرية التى لليمن، دورها فى تفردها بشخصية مميزة ذات طابع خاص فقد مهد لها موقعها وثروتها النباتية، ونشاط سكانها، لتلعب دورا ممتازا فى تاريخ الحضارات التى مر بها الإنسان العربى، منذ عرف الحياة فى شبه الجزيرة ولقد دفعت شخصية اليمن الجغرافية، بعض الدول، إلى بسط نفوذها عليها، لتسلبها ثمرة ما تتمتع به من مقومات، ولكن اليمن ظلت على مر العصور، صامدة تدفع عن كيانها كل غريب عنه، بل وأغرقت فى هذا الحفاظ على كيانها، حتى أصبحت فى شبه عزلة عن ركب الحياة الإنسانى المتحضر.
ومثلما كان هذا البلد الصغير ذا الموقع الحساس حقلا للمواجهات الدينية فى قديم الزمان، بين الزرادشتية والنصرانية والإسلام، كما سبق القول، فقد أصبح كذلك معتركا للتيارات الأيدلوجية المعاصرة، مثل الاشتراكية والناصرية والتقدمية والبعثية (السورية أو العراقية) والاتجاه المحافظ، الأمر الذى جعله فى نظر بعض الباحثين، يعتمد بالدرجة الأولى على الجامعة العربية، ابتغاء التخفيف من حدة هذا التنافس.
ثم اكتسب الجمهورية العربية اليمنية، أخيرا، أهمية استراتيجية بالغة، عقب مبادرة إغلاق مضيق باب المندب، عند اندلاع حرب أكتوبر 1973، وأيضا لدى إعادة فتح قناة السويس عام 1975، كما أسهمت الأوضاع القلقة فى القرن الأفريقى، فى تدعيم هذه الأهمية الاستراتيجية.
2- الثقل الديموجرافى:
على الرغم من صغر حجم سكان اليمن (لا يزيدون على 6,5 مليون نسمة) فإنه يتمتع بثقل ديموجرافى ملحوظ ينبع من حقيقتين: الأولى، أن منطقة شبه الجزيرة العربية تعتبر منطقة تخلخل سكانى، نظرا لضآلة حجم السكان، إذا قيس بموارد أقطارها البترولية والحقيقة الثانية، ما يتسم به سكان اليمن من نشاط ودينامية، إذا قيسا بالموارد المحدودة نسبيا للبلاد لذلك نجد أن خمس السكان (نحو 19%من مجموع السكان طبقا لآخر إحصاء أجرى عام 1975) (19). يوجدون خارج اليمن كما أن تحويلات المغتربين اليمنيين، تجئ فى المركز الثانى فى الأهمية بعد الإنتاج الزراعى إذ قدر بحوالى 6% من جملة الناتج القومى، حيث وصل إلى نحو 52 مليون دولار عام 1973.
ولا يخفى أن هذه الجاليات اليمنية، يمكن أن تصبح ذات أهمية خاصة لدى السياسة الخارجية اليمنية، ولا سيما أنها تنتشر بكثافة ملحوظة فى الأقطار المجاورة، مثل السعودية (350ألف يمنى)، وإثيوبيا وإريتريا (100 ألف) والصومال (75 ألف)، ودولة الإمارات العربية (40 ألف) واليمن الجنوبية (35 ألف)، والسودان (35 ألف) والكويت (30 ألف) من مجموع عددهم الذى قدر بنحو مليون يمنى مغترب عام 1970 ويلاحظ أنهم ينتشرون بصفة خاصة فى أقطار البحر الأحمر بل وبالفعل ونظرا للأهمية المتزايدة للمغتربين اليمنيين، نجد أن اتحاد المغتربين، يعد واحد من الجماعات السياسية الصاعدة فى اليمن الحديث، فضلا عن أن وزارة الخارجية، أنشأت إدارة جديدة للمهاجرين فى 9 مارس 1975(20).
3- الحاجة إلى التنمية الاقتصادية:
تحتل الجمهورية العربية اليمنية وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة مركزا متدنيا فى سلم الأقطار النامية فالاقتصاد اليمنى فى وضعه الحالى، اقتصاد متخلف يعانى ويشكو من كل مظاهر وعلل التخلف التى تشكو منها الدول النامية الأخرى، فالنشاط الزراعى يعتمد بالدرجة الأولى على وسائل بدائية، ومتوسط الدخل الفردى منخفض (83 دولارا عام 1971) والاعتماد شديد على القطاع الزراعى (60% من مجمل الناتج القومى)، فضلا عن ضآلة إسهام القطاع الصناعى (2%)، وانتشار الأمية (67,2%) وضعف نسبة التكوينات الرأسمالية (9% من متوسط الناتج القومى)، وضعف العبء الضريبى بشكل عام (3% من مجمل الناتج القومى)، وضعف الإنتاجية فى كل القطاعات هذا بخلاف السمات الخاصة التى ينفرد بها الاقتصاد اليمنى، مثل التشتت الجغرافى، وصعوبات الاتصال، والطبيعة القبلية للمجتمع، وظاهرة مضغ القات، والعزلة شبه الكاملة قبل الثورة، والانفتاح المفاجئ على العالم الحديث بعدها، ودخول اليمن فى حرب أهلية لمدة سبعة أعوام، وتتابع الظروف المناخية السيئة، وتناقص الأمطار (21).
وإزاء هذا الوضع الاقتصادى المتردى، تزايد اعتماد اليمن اقتصاديا على الخارج، فأصبحت حركة البناء والتعمير فيها تعتمد إلى حد كبير، على المعونات التى تأتيها من جيرانها من الأقطار البترولية (22) بل أن بعض الكتاب يعزو إلى هذا العالم أى الحاجة إلى التنمية الاقتصادية رغبة الجمهورية العربية اليمنية، فى أن تلعب دورا جديدا فى المنطقة، يرتكز على تنويع علاقاتها داخل مجتمع الدول العربية ومن ثم حاول محسن العينى عام 1974 أن يحصل على مساعدات من دول الإمارات والعراق وليبيا، حتى يقلل من تبعية اليمن الاقتصادية للسعودية، وسار الحمدى على نفس الخط الاقتصادى وإنما بطريقة مستترة فزار الإمارات والعراق، ولم يتردد فى استغلال التنافس بين دول الخليج الكبرى الثلاث أما بالنسبة للعلاقات مع القوى العظمى فلقد كانت لليمن علاقات تقليدية مع الاتحاد السوفييتى (تسليح الجيش بعثات تعليمية) ولكن بعد استقلال اليمن الجنوبى، بدأ الاتحاد السوفيتى يدير ظهره لليمن الشمالية، ويتجه ناحية اليمن الجنوبية وعلى الرغم من التلميح إلى احتمال وضع حد للدعم العسكرى السوفيتى، إلا أن اليمنيين لا يريدون الوصول إلى تلك النتيجة، لأن الوجود السوفيتى يلطف فى نظر بعض الكتاب من حدة المطامع السعودية، ومن ورائها الولايات المتحدة كما تدعم اليمن علاقاتها بالصين، وذلك بهدف إجبار السوفييت على اتخاذ سياسة واقعية لا عاطفية فضلا عن أن ذلك يسهم فى الحد من النفوذ الغربى المتصاعد (23). 4- وضع اليمن فى النظام الإقليمى للشرق الوسط:
تشغل اليمن الشمالية مركزا جيوبوليتيكيا حساسا ومعقدا فى إطار النظام الإقليمى للشرق الأوسط هذا وينشأ النظام الإقليمى (أو النظام الدولى الفرعى فى تسمية أخرى)، فى الأصل، حينما يصل نسق التفاعلات السياسة الدولية بين القوى المحلية لمنطقة ما، مستوى معينا من الكثافة، ويمكن قياس درجة كثافة هذه التفاعلات، بحدوث الصراعات والحروب من جانب، ومظاهر التعاون والتحالف العسكرىالخ من جانب آخر، وأيضا كثافة العلاقات الدبلوماسية العادية بين مختلف الشركاء، وكذلك صورة الفاعلين المختلفين عن بعضهم بعضا، وتصوراتهم الذاتية عن أدوارهم الدولية وقدراتهم وعادة ما توجد القوى العظمى فى مختلف الأنظمة الفرعية، وتقرر علاقاتهم، داخل كل نظام فرعى، بدرجة كبيرة، بالظروف الخاصة فى كل نظام فرعى، رغم أنهم أحيانا ما يعتبرون أن علاقاتهم تلك هى تابعة أساسا لعلاقاتهم العالمية الشاملة وعلى هذا النحو، نجد أن الشرق الأوسط يشكل نظاما إقليميا فرعيا ويضم ترتيبا للعلاقات تمخض عن هيكله السياسى الخاص به (24) وهكذا يرى بعضهم، أن الشرق الأوسط، كنظام إقليمى فرعى، منظم حول ثلاثة محاور، يغطى المحور الأول الصراعات والتنافسات المتزامنة (وفى ذات المكان) والتى تتخلل كل منطقة الشرق الأوسط، وهى ثلاثة صراعات: الصراع العربى الإسرائيلى، والتنافس فيما بين الأقطار العربية على القيادة، وعلاقات القوى العظمى التى تتراوح بين المواجهة والصراع والتنافس الضمنى أما المحور الثانى فيهتم بوصف المواضع الجغرافية للصراعات والتحالفات وفى هذا الصدد نجد هناك ثلاثة مواضع: منطقة القلب التى تضم الهلال الخصيب (العراق، سوريا، لبنان) الأردن إسرائيل ومصر، ومنطقة البحر الأحمر التى تشمل كلا من مصر والسودان والسعودية واليمن واليمن الجنوبية وإثيوبيا وإسرائيل وهذه المنطقة تخلق حلقة ربط بين النظام الفرعى للشرق الأوسط والنظام الفرعى لشرق أفريقيا، وهكذا نجد أن إثيوبيا التى تعد داخلة فى النظام الفرعى لشرق أفريقيا، متورطة أيضا فى منطقة البحر الأحمر والمنطقة الثالثة للصراعات هى منطقة الخليج، حيث تشترك فى الصراعات والتحالفات المحلية كل من إيران والعراق والسعودية والكويت وإمارات
الخليج (25).
أما المحور الثالث فهو المحور الأيدلوجى، حيث يدور الصراع بين النظم التقليدية والراديكالية، وداخل النظم الراديكالية نفسها، وبين دعاة الوحدة وأنصار التجزئة فى العالم العربى، فضلا عن العنصر الأيدلوجى فى الصراع العربى الإسرائيلى.
وإذا أضفنا إلى ما سبق، محورا رابعا هو المحور الاقتصادى عن الثراء والفقر، فإننا نلحظ ثمة صراعا سافرا حينا، وكامنا أحيانا، بين الأقطار الغنية (ذات الفائض البترولى والنقدى) والأقطار الفقيرة (ذات الفائض السكانى) فى العالم العربى أى أننا نخرج بقائمة للصراعات أو أقل المنازعات والمنافسات تبلغ نحو أحد عشر صراعا تعتمل بها منطقة الشرق الأوسط.
وفى إطار التحليل السابق، نستطيع أن نتبين المركز الجيوبوليتكى (أى الجغرافى السياسى) لليمن فى خريطة الصراعات الإقليمية والدولية ونجدها تحتل مركزا رئيسيا فى ستة من هذه الصراعات، وتشغل مركزا هامشيا فى خمسة منها وتشمل الفئة الأولى صراع البحر الأحمر، والتنافس الدولى فى جنوب الجزيرة العربية، والصراع بين النظم الراديكالية والتقليدية، وكذلك النزاع داخل النظم الراديكالية، فضلا عن الخصام بين دعاة الوحدة العربية وأنصار التجزئة، بالإضافة إلى الصراع بين الفقراء والأغنياء أما الفئة الثانية من الصراعات، والتى تشغل اليمن فيها مركزا ثانويا، فهى الصراع العربى الإسرائيلى، والتنافس بين الأقطار العربية على القيادة، والصراع الإقليمى فى منطقة الخليج، وفى منطقة القلب من العالم العربى، وأخيرا المحور الأيدلوجى فى الصراع العربى الإسرائيلى.
مما سبق، يتبين أن صراع البحر الأحمر يتبوأ المكانة الأولى فى سلم الاهتمامات الدولية للجمهورية العربية اليمنية.
موقع البحر الأحمر فى السياسة اليمنية:
على الرغم من أن هناك نحو تسع دول تطل على مياه البحر الأحمر، فإن الجمهورية العربية اليمنية، تكاد تكون فى غير مبالغة هى التى تحظى أو من المفروض أن يحظى البحر الأحمر بأهمية قصوى لديها، عما لدى بقية الدول، وذلك لعدة أسباب، منها أن اليمن تعد من دول البحر الأحمر مثل الأردن والسودان والصومال وإثيوبيا التى لا تحظى بمنفذ بحرى آخر خارج مياه البحر الأحمر كما أن على البحر الأحمر، تقع أهم مدن وموانى اليمن، مثل الحديدة والمخا والصليف وتمتد بطول الساحل أهم الجزر اليمنية ذات القيمة الاستراتيجية والسياسية فى الصراع الدولى الراهن فى منطقة القرن الأفريقى فضلا عن أن البحر الأحمر، يمثل لليمن ظهرها المكشوف، فنظرا لوعورة سلسلة الجبال التى تحيط بالقطر اليمنى من كل اتجاه، وتجعل أمر غزوه عبرها مسألة عسيرة اللهم إلا من خلال الثغور البحرية، التى كانت نقط الضعف التى نفذت منها معظم الحملات والغزوات الخارجية عبر التاريخ أن أهمية البحر الأحمر فى السياسة اليمنية، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع من الأهمية: أهمية تاريخية سياسية، وأهمية استراتيجية، وأهمية اقتصادية.
أولا: الأهمية التاريخية السياسية:
تشمل الأهمية التاريخية السياسية للبحر الأحمر عدة اعتبارات منها، أنه كان همزة الوصل بين اليمن وبين العالم المحيط وبالأخص باقى الأقطار العربية والأفريقية، كما سبق الإشارة ومنها أن الحدود التى فرضت على اليمن، اقتطعت جانبا من سواحلها على البحر الأحمر، ومنها أنه أعطى لعلاقات اليمن الدولية، ثقلا خاصا فى الموازين الدولية.
1- حدود اليمن والبحر الأحمر:
الواقع أن اليمن لم ترسم حدودها برضاها والحدود الحالية بعضها مفروض عليها، وبعضها قبلته مرغمة بعد هزيمة جيوشها وهذه هى الحدود الجنوبية والشمالية أما الحدود الشرقية، فهى غير معروفة وغير متفق عليها لقد قبلت اليمن تخطيط حدودها الشمالية مع المملكة العربية السعودية بعد هزيمة عام 1934 بمقتضى معاهدة الطائف وتبدأ الحدود على ساحل البحر الأحمر شمال قرية ميدى بمقدار خمسة أميال، ثم تتجه الحدود شرقا حتى تصل نطاق المرتفعات عند بلدة الصليف، ومنها تتجه الحدود إلى الشرق، ثم الشمال ثم الشمال الغربى، راسمة قوسا شمال حوض صعدة، بحيث يصبح ذلك الحوض فى نطاق اليمن، ثم تتجه الحدود شرقا إلى جنوب وادى نجران وتنتهى الحدود عند تقاطع خط العرض 25 ,27 درجة شمالا مع خط الطول 20, 44 درجة شمالا، بحيث تصبح بلاد يام ونجران فى نطاق المملكة العربية السعودية (26).
أما الحدود الجنوبية فتنقسم إلى قسمين: القسم الأول قامت لجنة تركية إنجليزية بتخطيط الحدود بين اليمن وبين محمية عدن عام 1904، وتبدأ هذه الحدود من طربة على الساحل عند مدخل البحر الأحمر، وتتجه إلى الشمال الشرقى حتى بلدة قعطبة التى تقع فى نطاق اليمن، أما القسم الثانى من الحدود، فرسمته السلطات الإنجليزية بمفردها، وفرضت قبوله على دولة اليمن وتمتد هذه الحدود من بلدة قعطبة فى اتجاه شمالى شرقى، حتى وادى ببجان، ثم تتجه الحدود مع وادى بيجان إلى الشمال الشرقى، حتى الأطراف الجنوبية للربع الخالى.
2- اليمن والمركز الدولى المتغير للبحر الأحمر:
تنازلت تركيا أصلا عن حقوقها فى جزر البحر الأحمر بموجب المادة 15 من معاهدة لوزان عام 1923، واقتسمت الدولتان (بريطانيا وإيطاليا) النفوذ فى النهاية، بعد تنافس شديد استمر نحو خمسة عشر عاما هذا وترجع أطماع الاستعمار الإيطالى فى البحر الأحمر إلى عام 1864، عندما نجحت مقاطعة سردينيا كبرى مقاطعات إيطاليا (قبل الوحدة) فى إقامة رأس جسر لها فى البحر الأحمر، حينما استولت على مصوع ثغر أسمرة عاصمة إريتريا، بالاتفاق مع الإنجليز وتعضيدهم، وقد تم ذلك فى أعقاب فشل حملة الخديوى إسماعيل إلى أفريقيا ثم وثق الإيطاليون علاقاتهم بالسيد محمد على الأدريسى على الجانب الآخر من البحر الأحمر، بسبب معاونته للأتراك قبل الحرب العالمية الأولى وبعد عقد معاهدة فرساى وقيام الفاشية فى إيطاليا، كان البحر الأحمر من جملة المقاطعات التى أعلن موسولينى عزمه على إعادتها إلى إيطاليا، بحجة أنها كانت خاضعة فى الأصل لإمبراطورية روما وهكذا وقع الإيطاليون مع الإمام يحيى فى 2 سبتمبر 1926 أول معاهدة لليمن المتوكلة مع دولة أجنبية ويبدو أن هدف الإمام يحيى من وراء ذلك، كان إزعاج الإنجليز، عساهم يعدلون عن أساليبهم (27).
ثم أعيد تجديد هذه المعاهدة فى 4 سبتمبر 1937، وكانت إيطاليا إذ ذاك فى أوج عظمتها، بعد أن أنجزت احتلال الحبشة عام 1935 إلا أن هزيمة إيطاليا فى الحرب العالمية الثانية، عصفت بأطماع ومخططات إيطاليا فى البحر الأحمر.
والواقع أن من يتابع سلسلة المعاهدات التى عقدتها اليمن المتوكلية مع الدول الأجنبية بعد إيطاليا، وهى الاتحاد السوفيتى (1928) وهولاندا (1933)، وبريطانيا (1934)، وإثيوبيا (1935) وفرنسا إبريل 1936 وبلجيكا (ديسمبر 1936)، والولايات المتحدة الأمريكية (1946)، يجد أنها تؤكد بصراحة، على أن تتمتع سفنها وشحناتها بشرط الدولة أكثر رعاية وهذا يعكس فى جانب منه اهتمام الدول المعنية بتسهيلات التجارة والملاحة فى البحر الأحمر التى تقع موانى اليمن على ساحله الآسيوى. بل أنه يمكن القول، أنه فى أعقاب أزمة السويس 1956، وبفضل موقف روسيا من هذا العدوان الغربى، بدأ النفوذ الشيوعى، يجد طريقه إلى اليمن، للمرة الثانية، وبشكل قوى، وبذلك أصبحت الدول الكبرى، أمريكا وروسيا وبريطانيا والصين، تتناحر سياسيا على الأرض اليمنية الشمالية، بغية السيطرة فى الواقع على عدن والشواطئ (28).
ثانيا: الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر:
تتمثل الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر فى ثلاثة أبعاد هى: موقع باب المندب والجزر اليمنية، وكون البحر الأحمر بمثابة أنبوب لتدفق بترول الخليج، والموقف المتفجر فى القرن الأفريقى.
1- موقع باب المندب والجزر اليمنية:
يقع باب المندب بين الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية وبين أفريقية، ويربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندى وكان السبب فى تسمية المضيق باب المندب، هو خطورته وتعرض السفن للاصطدام بالصخور البارزة، وتحطمها وضياع بحارتها وركابها، حتى لقد قيل بأن عائلات البحارة كانت تندبهم وقت رحيلهم نحو باب المندب.
وتشطر جزيرة بريم هذا المجرى المائى إلى قناتين، قناة شرقية عرضها ميلان فقط، وعمقها أقل من مائة قدم، وقناة غربية عرضها تسعة أميال وربع، وعمقها تقارب ألف قدم وتجرى كل الملاحة عمليا عبر القناة الغربية على طول طريق يبعد مسافة ميلين عن جزيرة بريم، وسبعة أميال عن الساحل الأفريقى وفى سنة 1966 أى قبل سنة واحدة من إغلاق قناة السويس، بلغ متوسط عدد السفن التى تعبر هذا الممر يوميا نحو ستين سفينة.
ويمتد مضيق باب المندب إلى المياه الإقليمية لأربع دول هى: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والجمهورية العربية اليمنية على الجانب الشرقى أو العربى، وجيبوتى وأثيوبيا على الجانب الغربى أو الأفريقى والخطوط الساحلية لهذه الدول الأربع تحتل مواقع استراتيجية بالنسبة للعمليات الجوية والمدفعية والبحرية فى المنطقة، كما أن موانيها الرئيسية، كميناء عدن وجيبوتى والحديدة وأساب مصوع تستخدم من قبل سفن الكثير من الدول وقبل إغلاق قناة السويس فى يونيه كان ميناء عدن وجيبوتى يحتلان المركز الرابع والسادس بين موانى العالم، من حيث ازدحام حركة المرور (29) كما أن العديد من الجزر الصغيرة المعروفة التابعة لهذه الدول أهميتها أيضا، نظرا لموقعها الجغرافى الذى يمكنها من السيطرة على الملاحة فى المنطقة أو التدخل فى شئونها ومن هذه الجزر، جزيرة كمران، وهى موضع خلاف بين اليمن الشمالية واليمن الجنوبية، إلا أنها أصبحت تضخ للأولى. وتقع جزيرة كمران على بعد مائتى ميل شمالى باب المندب، وعلى بعد يسير لا يتعدى ثلاثة أميال من ساحل اليمن الشمالية، وتقع فى مواجهتها مدينة الصليف الشهيرة بجبال الملح، وهى أكبر جزيرة فى مجموعة من الجزر الصغيرة، والمرتفعات الضحلة المتناثرة فى تلك المسافة المعروفة كلها باسم كمران وهناك أيضا جزيرة جبل الطير، وتسمى فى الخرائط البحرية كواين ايلند وتبعد 250 ميلا إلى الشمال من جزيرة بريم (اوميون) وعلى بعد مائة ميل منها تقع جزيرة أبو على (30).
ومن تلك الجزر أيضا أرخبيل الدهلاق (وهو يتبع أثيوبيا) وجزر حالب وفاطمة وحنش الكبرى والصغرى (وهى موضع خلاف بين أثيوبيا واليمن الشمالية) والجزر الواقعة فى خليج أساب (وهى تابعة لأثيوبيا) وجزيرة سوقطرة التابعة لليمن الجنوبية وتقع على بعد 220 ميلا إلى الجنوب الشرقى من مضيق باب المندب.
وقد اقترحت عدة بلدان، وضع المضيق كله أو جزيرة بريم بمفردها تحت شكل من أشكال السيادة الدولية غير أن المحاولات الرامية إلى تدويل جزيرة بريم، حينما كانت عدن تحت الحكم البريطانى، باءت بالفشل وقد تمت لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السيادة على هذه الجزيرة عند استقلالها ثم تجدد النقاش الداعى إلى تدويل المضيق كله، بعد أن قام فدائيون فلسطينيون فى يونيو 1971 بمهاجمة ناقلة نفط متجهة إلى إسرائيل بمدافع البازوكا من زورق بخارى سريع فى بحر المرجان.
2- البحر الأحمر وتجارة البترول:
كانت حرب أكتوبر 1973 تمثل جولة حسمتها الضربة القاضية، ولكن مباراة الصراع استمرت فى المنطقة على المستويات الإقليمية والعالمية فعلى المستوى الإقليمى، يحتل الصراع العربى الإسرائيلى الأولوية، وفى منظور القوى الكبرى، يكون الموضوع الأول فى الصراع العالمى، هو تجارة البترول والسيطرة على طرق النقل البحرى من المحيط الهندى إلى غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ومنذ حرب أكتوبر حتى اليوم، تغيرت الأساليب والوسائط فقط، واستمر الحساب بالقط فى كشف الأرباح والخسائر ومن المعلوم أن هناك طريقين لتجارة البترول، الأول يتجه شمالا عبر الأحمر وقناة السويس إلى البحر المتوسط ولهذا تزداد القيمة الاستراتيجية لقضايا باب المندب وجيبوتى والسواحل الأفريقية والآسيوية المجاورة حتى منطقة شرقى البحر المتوسط أما الطريق الثانى فى هذه التجارة فيتجه جنوبا عبر مضيق موزمبيق الفاصل بين جزيرة مدغشقر ودولة موزمبيق، ويمر بجوار جزر الكومور (القمر) ثم إلى رأس الرجاء الصالح، وبعد هذا يتجه شمالا على طول سواحل أنجولا وغرب أفريقيا ولهذا تعقدت قضايا المناطق المحيطة بهذين الطريقين.
وهذه المتغيرات تترك آثارها بالإيجاب أو بالسلب على مواقف وسياسات الدول الأخرى على شؤاطى البحر الأحمر، وخاصة الساحل الآسيوى (العربى) وليس لهذه الحكومات موقف موحد تجاه قضايا البحر الأحمر، والصراعات الدولية فى منطقة المحيط الهندى ولهذه الدول علاقات خارجية بالصداقة مع بعض القوى الكبرى المتصارعة، وهذه العلاقات الخارجية فى جوهرها ترتبط وتتحرك حول منابع البترول (31).
والواقع أن قيام مصر بغلق بوغاز المندب فور اندلاع حرب أكتوبر 1973 قد لفت الأنظار إلى البحر الأحمر بشكل مثير، إذ قد تأكدت أهمية الحصار البحرى بعد أن أصبحت الحياة الاقتصادية للشعوب جزءا لا يتجزأ من قوة الدول السياسية والعسكرية (32).
3- الموقف المتفجر فى القرن الأفريقى:
تشير حقائق الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتك)، إلى أن الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقى، تنبع من ذلك الصراع الذى يدور حول كل من باب المندب ومنطقة شرق أفريقية هذا ونستطيع أن نميز من بين قواعد الاستراتيجية العالمية مبدأين أساسين:
المبدأ الأول، أن من يسيطر على البحر يسيطر على البر، فنلاحظ أن باب المندب يقع فى المنتصف بين بومباى والسويس، الأمر الذى يفسر حقيقة أن الاستراتيجية البريطانية، كانت إلى وقت قريب، تعتمد على ثلاث ركائز هى سنغافورة عدن جبل طارق ولا يخفى أن تجارة البترول تمر بهذه الطرق البحرية، ومن ثم تبرز أهمية تأمين الطرق بالنسبة للعالم الغربى، الذى يعتمد على البترول العربى والمبدأ الثانى، أن من يسيطر على الأطراف يسيطر على القلب، ويتضح هذا فيما يجرى حاليا بوساطة بعض القوى الكبرى لخلق أوضاع دولية جديدة، تتمثل فى إنشاء نظم دولية فرعية تابعة، ترتكز على بعض الدول المحيطة بالمنطقة، سواء لصالح الغرب أو الشرق. وتكفى نظرة سريعة على تحركات الدول العظمى فى السنوات الأخيرة لتكشف إلى أى مدى احتدام التنافس بينهما، ولا سيما بعد المتغيرات الرئيسية التى ألقت بظلالها على الساحة الدولية، وفى مقدمتها أزمة الطاقة العالمية، وحرب أكتوبر 1973 ومضاعفاتها وارتفاع درجة التنافس فى أفريقيا، وكثافة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية فى بلدان المنطقة (33). ويستطيع المتأمل للأحداث، أن يميز بين ثلاثة أنماط من الاستراتيجيات المتبعة:
1- استراتيجية الاحتواء، وتعنى التحكم فى البحر الأحمر والسيطرة على المنطقة المحيطة به بالقوات المسلحة المباشرة.
2- استراتيجية الاقتراب غير المباشر، وتشمل التحكم فى المضايق والمنافذ البحرية والجزر الاستراتيجية المتحكمة فى الملاحة عبر البحر الأحمر والحصول على قواعد وتسهيلات بحرية فى الموانى المتاخمة لها، أو سيطرة النفوذ السياسى والاقتصادى.
3- استراتيجية الملاحظة، وتعبر عن نفسها فى شكل إصدار التصريحات والتلميحات وإعلان النوايا وقد تبنتها العناصر الضعيفة من الفرقاء وعلى ضوء ما سبق، نستطيع أن نتفهم مغزى العلاقات الخاصة التى يقيمها الاتحاد السوفيتى مع أثيوبيا، وتلك العلاقات المتنوعة التى يقيمها مع كل من الصومال واليمن الجنوبية وعلى الجانب الآخر، نجد أن الولايات قد عززت علاقاتها التقليدية مع السعودية والسودان، وتدعيم قواتها العسكرية فى ديجو جارشيا بالمحيط الهندى، وذلك غير التأثير عبر الوجود الإيرانى فى عمان وكذلك تلك التسهيلات البحرية التى حصلت عليها الولايات المتحدة فى سوقطره وهرمز ووسط هذه الأنواء والعواصف الدولية التى تحيط بالمنطقة، تحاول الجمهورية اليمنية الاحتفاظ لنفسها بموقف متوازن وعلاقات متنوعة مع مختلف الأطراف وهكذا تحتل الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر مكان الصدارة فى السياسة اليمنية فمضيق باب المندب يمتد إلى المياه الإقليمية لليمن الشمالية، كما أن بعض الجزر الحاكمة هى جزر يمنية أما بترول الخليج، فلا يخفى أهمية استمرار تدفقه بالنسبة لليمن، لأسباب اقتصادية تتعلق بمساعدات الدول النفطية لمشروعات التنمية فى اليمن يتبقى الصراع المحتدم فى القرن الأفريقى، وهذه مسألة لا تستطيع الجمهورية العربية اليمنية، أن تقف منها مكتوفة اليدين نظرا لقوة الارتباطات التاريخية والسياسية التى تشدها بالساحل الأفريقى من البحر الأحمر.
ثالثا: الأهمية الاقتصادية للبحر الأحمر:
مع تزايد الحاجة إلى التنمية الاقتصادية، سوف تتصاعد مستقبلا القيمة الاقتصادية التى يمثلها البحر الأحمر ليس لليمن فحسب بل لكل دوله وذلك بحكم طول سواحله ومياهه وما تنطوى عليه من موارد وثروات يمكن التركيز على اعتبارين رئيسيين فى هذا المجال يتعلقان بالساحل والموانى، وبالموارد الطبيعية.
1- الساحل والموانى:
يبلغ طول ساحل اليمن على البحر الأحمر أكثر من 400 كم، وتنتشر به القرى الصغيرة التى يعمل سكانها فى صيد البحر، وتفصل الكثبان الرملية، هذه القرى بعضها عن بعض، كما أن الشعاب المرجانية، تكثر بالقرب من الساحل، ولهذا يتعذر على السفن الكبيرة الاقتراب من الساحل اليمنى وتصبح القوارب الصغيرة، أو السنابك، هى وسيلة المواصلات البحرية الوحيدة التى تستطيع أن تدخل إلى هذه القرى الساحلية وغير هذه القرى، توجد عدة موانى أهمها الحديدة والمخا والصليف.
والميناء الأول، وهو ميناء الحديدة، الذى أنشأه الأتراك فى منتصف القرن التاسع عشر، استعانت حكومة اليمن بالاتحاد السوفيتى منذ عام 1961 لتوسيعه، وبناء أرصفة لاستقبال السفن الكبيرة، وذلك لتحويله إلى ميناء حديث، يصلح لأن يكون منفذا لليمن بدلا من ميناء عدن، بعد أن زادت الخلافات بين اليمن الشمالية واليمن الجنوبية هذا وتقدر الطاقة السنوية لميناء الحديدة فى حدود 400 ألف طن، وقد تجاوزت كمية البضائع التى تمر عن طريق الميناء 551 ألف طن عام 1973 (34) علما بأنه من المستهدف أيضا إقامة مشروع لتعبئة البوتاجاز محليا فى الحديدة، بدلا من استيراد الأسطوانات المعبأة الجاهزة.
أما ميناء الصليف فيقع على بعد 75 كم شمال الحديدة، فى منطقة عميقة نسبيا محمية من الرياح، إذ تواجهها جزيرة كمران ويستقبل هذا الميناء السفن الشراعية التى تحمل بعض السلع التجارية، كما يستقبل سفن الصيد، أو السفن التى كانت تحمل الحجاج اليمنيين عند عودتهم من الأراضى المقدسة بعد نزولهم إلى الحجر الصحى فى جزيرة كمران واختص الميناء بتصدير الملح الصخرى، كما قامت الشركة اليمنية لصناعة الملح بتوسيع الميناء، وإنشاء رصيف يستقبل السفن الكبيرة، التى تحمل الملح إلى اليابان، وإلى الأسواق العالمية الأخرى وقد صدرت اليمن عن طريق ميناء الصليف نحو 150 ألف طن من الملح الصخرى عام 1970(35).
أما ميناء المخا القديم، فقد كان يصدر منه محصول البن إلى الأسواق الأوروبية، حتى منتصف القرن التاسع عشر، حين انتقلت تجارة الصادر من البن إلى عدن، وقد بدأت اليمن منذ عام 1956 بتعميق الميناء، بمساعدة الاتحاد السوفيتى ليصبح المنفذ البحرى للأجزاء الجنوبية من البلاد.
2- الموارد والثروات:
من المعلوم أن البحر الأحمر، يتميز بأنه يطوى فى أعماقه ثروات هائلة من المعادن وغيرها، لم تتوفر بعد الوسائل التكنولوجية لاستثمارها ومع ذلك فالأسماك والبترول يعد أن أحد المصادر الواعدة بالثروة لدولة متخلفة سحيحة الموارد مثل اليمن أو تعتبر السواحل اليمنية على البحر الأحمر، من أغنى السواحل، بالأسماك على مختلف أنواعها ويعيش عدد كبير من سكان السواحل على صيد الأسماك وأن كان السكان بالداخل لا يستهلكونها إلا نادرا، لصعوبة المواصلات بين الساحل والداخل، وعدم توفر وسائل الحفظ والتعليب هذا ويستهدف البرنامج الإنمائى الثلاث تطوير تسهيلات التسويق الداخلى للأسماك الطازجة، وإقامة صناعة التعليب وإصدار التشريعات اللازمة لتحديد المياه الإقليمية وحمايتها، وتنظيم الصيد فيها كما تقوم شركة ميكوم الأمريكية بالبحث عن الزيت فى إقليم تهامة وقد حفرت أكثر من خمسة آبار فى منطقة امتيازاها إلى عمق 10 آلاف قدم، وتوالى أعمال الحفر أملا فى وجود الزيت وقد عقدت اتفاقية بين اليمن وشركة النفط الوطنية الجزائرية سوناطراك للتنقيب عن الزيت فى نهاية 1969، فى رقعة مساحتها 15 ألف كم2، منها خمسة آلاف فى المناطق المغمورة، وتقوم هذه الشركة حاليا بالحفر فى منطقة الحديدة.
الدور اليمنى فى البحر الأحمر:
حين نتحدث عن سياسة اليمن فى البحر الأحمر، لا يقتصر هذا المفهوم على مجمل السياسات اليمنية تجاه البحر (أى تلك المساحة المائية المعروفة)، ولكن بالدرجة الأولى، تجاه البلدان التى تطل على مياهه أو ذات المصالح الحيوية المتعلقة به وعلى هذا يتعذر فهم الدور اليمنى (الماضى والحالى والمرتقب) إلا فى إطار تفاعله مع أدوار بقية القوى الدولية طبقا لمنهج تحليل النظم والذى يرى أن هناك مجموعة من النظم الدولية الفرعية (أو الإقليمية) المتداخلة، مثل النظام الإقليمى للشرق الأوسط والنظام الإقليمى للتنافس العربى، والنظام الإقليمى لشرق أفريقية، والنظام الفرعى للبحر الأحمر. الخ، وجدير بالذكر، أن هذا التمييز ذو طبيعة تحليلية وليست واقعية أو محددة بمعنى أن الواقع الدولى لا يعرف هذا الفصل التعسفى بين هذه الأنظمة ولكن نلجأ إليه لتسهيل مهمة البحث وتحديد إطار الظاهرة، والكشف عن متغيراتها، والعلاقات القائمة بينها. وقد عالجنا فيما سبق تطور السياسة الخارجية اليمنية عموما، وفى المنطقة على وجه الخصوص لكن اهتمام اليمن باتباع سياسة واضحة المعالم تجاه البحر الأحمر، لم يظهر إلا كجزء من الاهتمام العالمى استراتيجيا وسياسيا فى السنوات الأخيرة بهذا البحر نتيجة عدة عوامل منها تزايد الجدل حول مسألة السيطرة على المدخل الجنوبى للبحر الحمر بين دول قوية خارج المنطقة وإعادة فتح قناة السويس 1975، والأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب بالنسبة للدول المستوردة والمصدرة للنفط، وكذلك بالنسبة للقوى العظمى والدول الساحلية على حد سواء وهذه كلها عوامل أدت إلى تصعيد الاهتمام الدولى بمسألة السيادة على المدخل الجنوبى للبحر الأحمر.
وعلى هذا النحو، لا يمكن أن نتبين أبعاد الدور اليمنى فى البحر الأحمر، إلا فى ضوء التفاعل (بالتعاون أو الصراع أو الحياد) مع الأطراف المعنية الفاعلة فى صراعات المنطقة ونستطيع أن نقسم أنماط الصراعات الدائرة حول البحر الأحمر، إلى ثلاثة أنواع: تناحر دولى أطرافه القوى العظمى، وصراع إقليمى أطرافه دول المنطقة، ثم تفاعل عربى يتسم أحيانا بالتعاون وأحيانا بالصراع.
أولا: الصراع الدولى على البحر الأحمر:
أطراف اللعبة الدولية فى البحر الأحمر هى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى والصين وبريطانيا وفرنسا وبالأخص أن الصراع البحرى قد احتدم على شواطئ المحيط الهندى بين القوتين الأعظم فى السنوات الأخيرة بل أن بعضهم يفسر محاولات السيطرة على حكومة اليمن الشمالية بين العملاقين، بأنه لم يكن مقصودا، عن طريق إيجاد حزام فاصل وفى سبيل ذلك، يبذل العملاقان جهودا فى محاولة السيطرة على الحكم فى صنعاء بشتى الوسائل (36).
هذا وتقوم السياسة الأمريكية الأمريكية على نظرية جوام التى أفصح عنها الرئيس الأمريكى الأسبق نيكسون فى يوليو 1969، وهى ترتكز على التمسك بالمراكز التى حصلت عليها الولايات المتحدة فى الدول التى تطل على المحيط الهندى، والتى تشكل العناصر الأساسية للاستراتيجية الأمريكية الجديدة، والتى تتيح لواشنطن الحفاظ على إشرافها على الإنتاج البترولى فى الجزيرة العربية والخليج، وتصريفه عبر السويس ورأس الرجاء الصالح واليابان، والدفاع عن أفريقيا وخاصة شرقها ضد التسلل الشيوعى السوفيتى والصينى على حد السواء ومن بين وسائل تحركها الاعتماد على الدول الصديقة مع الاتفاق مع السوفيت لضمان استقرار الأوضاع الراهنة فى الجزيرة العربية، وهذا يعنى بالفعل تحييد البحر الأحمر وإخراجه من دائرة الصراع الجارى فى المحيط الهندى. أما السياسة السوفيتية، فمن المعروف أنها تعمل منذ 1956 على التوغل البطئ والمنتظم فى المحيط الهندى، حيث يتيح له وجوده البحرى، إبرام اتفاقيات جديدة تشمل برامج عمل وتعاون، كما يحصل على تسهيلات ملاحية عسكرية، ومن بين أهدافه، تحويل البحر الأحمر إلى طريق مرور خاضع للسيطرة السوفيتية، أو على الأقل جعله طريقا دوليا مفتوحا للجميع فهم يعدون البحر الأحمر، بصفة عامة، عاملا أساسيا لتقدمهم فى اتجاه المحيط الهندى، كما يتيح لهم إحكام احتوائهم للجزيرة العربية والتحرك فى اتجاه الخليج (37).
أى أن الدولتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى تتخذان موقفا متماثلا من حيث الجوهر فكل منهما تفضل حرية الملاحة فى مضيق باب المندب، نظرا لما لها من مصالح استراتيجية رئيسية مرتبطة بقدرتهما على تحريك أساطيلهما على امتداد البحر المتوسط والمحيط الهندى وفق الضرورة.
وفى المقابل، نجد الجمهورية العربية اليمنية، تحاول أن تنتهج سياسة خارجية متوازنة إزاء العملاقين ولكن لوحظ فى السنوات الأخيرة بعض الفتور فى العلاقات اليمنية السوفيتية، وذلك بالقياس للعلاقات الحميمة السابقة إبان الستينات أثناء نزاع الحكومة الجمهورية مع الملكيين ويبدو أن ذلك راجع للميل المتزايد للسوفييت تجاه اليمن الجنوبية فقد صرح الرئيس اليمنى الراحل المقدم الحمدى فى 4 أغسطس 1975 أن حكومته قررت تجميد علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفيتى، ورفضت عرضا سوفيتيا بتجهيز اليمن الشمالية بطراز من طائرات ميج 21(38). أما الوجود الصينى فى المنطقة فإنه قائم على بذل المعونات، بهدف محاربة الوجود السوفيتى وقد تركزت مساعداتها لليمن فى مجال إنشاء الطرق وبناء مصنع للنسيج أما إنجلترا فلم تعد تملك منذ انسحابها من عدن وسيلة للإشراف على طريق السويس وعلى البحر الأحمر وخليج عدن، سوى قاعدة جوية أقامتها فى مصيرة. تتبقى السياسة الفرنسية التى تعد إلى حد ملحوظ سياسة نشطة ودينامية فى المنطقة فقد وافق الرئيس ديستان فى عام 1976 على استقلال جيبوتى، مع استمرار الحضور العسكرى واستمرار المعونة الاقتصادية لها التى تصل إلى حد 60 مليون دولار سنويا (39).
ومن ثم تصبح فرنسا هى القوة الأجنبية الوحيدة الموجودة على سواحل مضيق باب المندب وهى أى فرنسا تنظر نظرة واقعية إلى مسألة السيطرة على المضيق ويركز المسئولون الفرنسيون عادة على ضرورة التوفيق بين المصالح الأمنية المشروعة للدول الساحلية المطلة على المضيق ومصالح المجتمع الدولى التى تتمثل فى حرية الملاحة (40).
بعد استعراض هذا المسح الموجز لخريطة الصراع الدولى فى البحر الأحمر وأطرافه، يثور التساؤل حول اتجاهات السياسة اليمنية إزاء تلك الأطراف صحيح أن ملامح الصورة قد زادت تعقيدا بفعل أن القوى العظمى وبالأخص العملاقين السوفيتى والأمريكى تلعب دورها فى المنطقة أحيانا عن طريق ما يسمى الطرف الثالث وهناك فى نظر بعض المراقبين أكثر من طرف ثالث يحيط باليمن الشمالية من كل اتجاه وعلى الرغم من ذلك يمكن القول أن السياسة الخارجية لليمن إزاء أطراف الصراع الدولى، ترجح انتهاج سياسة متوازنة تقوم على تنويع علاقاتها بمختلف الفرقاء فهى تتعامل بحذر ملحوظ مع كل من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة والصين.
بيد أن فرنسا تكاد تكون استثناء من ذلك التعميم نظرا لأن صفحتها لم تتلوث تاريخيا بأية علاقات استعمارية مع شبه الجزيرة العربية ونظرا لموقفها المناصر للقضية العربية، لذا يلاحظ تزايد التعاون اليمنى مع فرنسا على سبيل المثال حدث فى 20 يونيه 1976 أن قام المقدم أحمد الغشمى رئيس أركان القوات المسلحة اليمنية وقتذاك والرئيس اليمنى الحالى بزيارة باريس حيث أجرى مباحثات مع الحكومة الفرنسية حول إمكانات التعاون الاقتصادى والفنى والعسكرى (41).
ثانيا: الصراع الإقليمى فى البحر الأحمر:
نعنى ذلك الصراع الناشب بين بعض أو كل دول البحر الأحمر، ليس بسبب ارتباط هذه الدول بالقوى العظمى أساسا، وإنما بسبب رغبتها فى السيادة أو السيطرة الإقليمية لحماية مصالحها أو أطماعها وهنا نلاحظ من منظور عربى وجود خصمين رئيسيين يتصديان لأى سيادة عربية مشتركة على البحر الأحمر هذان الخصمان هما: إسرائيل وإثيوبيا، إذ من الواضح أن حلبة الصراع ليست مقصورة على العمالقة فحسب، وإنما هناك أيضا القوى الإقليمية فى المنطقة والتى تلعب دورا محسوسا لتحقيق مآربها وأهدافها وهنا تقفز على الفور انعكاسات الصراع العربى الإسرائيلى.
كان النشاط الإسرائيلى فى شرق أفريقية، وفى إثيوبيا بوجه خاص، قد بدأ فى بداية الستينات، كجزء من استراتيجية متماسكة موجهة إلى الحلقة الخارجية للشرق الوسط والتى تضم تركيا وإيران وإثيوبيا وقامت هذه الاستراتيجية فى مراحلها الأولى على فكرة الالتفاف حول البلدان العربية فى منطقة القلب من الشرق الأوسط (42). ولا ريب أن الاهتمام الإسرائيلى بالبحر الأحمر، له أكثر من سبب، كما يتضح من مجمل التحركات الإسرائيلية فى السنوات الأخيرة فالخط الثابت فى تصريحات مسئوليها، هو إظهار بالقوة الإقليمية ذات اليد العليا أو الطولى فى القضايا المرتبطة بأمن البحر الأحمر وإسرائيل تخطط جاهدة لكى يكون البحر الأحمر شريانها البحرى الحيوى لتصدير سلعها المصنعة ونصف المصنعة، ولاستيراد المواد الخام التى تحتاج إليها وحماية تجارتها مع دول شرق وجنوب أفريقيا ودول جنوب آسيا والشرق الأقصى وقد أتمت تنفيذ مشروع خط أنابيب إيلات عسقلان، ومهدت الطريق البرى بين إيلات وشمال إسرائيل، لضمان حصولها على البترول، بعيدا عن قناة السويس، ولضمان استمرار ملاحتها فى البحر الأحمر (43).
والواقع إنه قبل سنة 1967 كانت إسرائيل مهتمة اهتماما معتدلا بمسألة حرية الملاحة عبر مضيق باب المندب، نظرا لآن فرنسا وبريطانيا كانتا موجودتين فى جيبوتى وعدن غير أن حادثة بحر الكمسورال (المرجان) ومن ثم حرب أكتوبر، بشكل خاص، غيرتا الموقف جذريا وكان من الشروط التى وضعتها إسرائيل لتوقيع اتفاقية فصل القوات مع مصر قيام القاهرة برفع الحصار الذى فرضته بحريتها على السفن المتجهة إلى إسرائيل وفى نفس الوقت، طالبت إسرائيل بإدراج مسألة حرية ملاحة سفنها فى المنطقة بجدول أعمال أى مؤتمر للسلام يعقد فى المستقبل وذلك نظرا لأن اعتماد إسرائيل على النفط الإيرانى سيتزايد بشكل جوهرى ولهذه الأسباب يتخوف الكثيرون من الإسرائيليين من أن قيام حصار آخر سيضعهم فى موقف خطر، تتجاوز خطورته بكثير موقفهم عام 1973(44). ونظرا لعدم قدرة القوات الجوية والبحرية الإسرائيلية السيطرة المباشرة والفعالة على المدخل الجنوبى للبحر الأحمر، فإنها عمدت إلى تثبيت أقدامها فى أثيوبيا، على الرغم من التغيرات التى طرأت على النظام الحاكم هناك لذلك بآت الدور الإسرائيلى، فى تصعيد صراعات منطقة البحر الأحمر واضحا، فقناصر فكرة تدويل مضيق باب المندب، وتعمل فى نفس الوقت على دعم علاقاتها
بإثيوبيا (45).
وهكذا يلتقى المسعى الإسرائيلى بالموقف الأثيوبى وتشكل إثيوبيا علامة استفهام كبيرة، وبالأخص فيما يتعلق بسياستها المرتقبة إزاء البحر الأحمر والسبب فى ذلك، هو الوضع الصعب الذى تجتازه بعد الانقلاب العسكرى، وتصاعد الثورة فى إريتريا، نافذتها الوحيدة على البحر، الأمر الذى أضعف قدرتها فى الاستمرار على السيطرة على أساب ومصوع، ناهيك عما تبقى من واجهة البلاد التى يصل طولها إلى ما يقارب 600 ميل فى منطقة البحر الأحمر وباب المندب وقد دفع تزايد خطر التواطؤ الإسرائيلى الأثيوبى، حكومة الجمهورية العربية اليمنية، إلى تحرك نشط وإيجابى فعلاوة على الخط القومى الثابت لليمن من الصراع العربى الإسرائيلى، ترددت الأنباء بأن الجمهورية العربية اليمنية طالبت من جديد فى أول أكتوبر 1977، فى مذكرة سرية بعثت بها إلى جامعة الدول العربية والدول الأعضاء فى الجامعة، بضرورة وضع ترتيبات عاجلة بشأن باب المندب والجزر اليمنية فى البحر الأحمر، خاصة بعد تعاظم القوة الأثيوبية والوجود الإسرائيلى هناك (46). وجاء فى المذكرة اليمنية، أنه قد تأكد لدى الجمهورية العربية اليمنية، منذ أغسطس 1977، أن أثيوبيا قد باعت الشريط الساحلى الإريترى للمخابرات الإسرائيلية، الذى يمكن إسرائيل من تهديد الجزر العربية فى البحر الأحمر تهديدا مباشرا.
ثالثا: اليمن والتنافس العربى فى البحر الأحمر:
على الرغم من الحركة النشيطة لخصوم الأمة العربية فى البحر الأحمر، فأننا نلاحظ أن العلاقات ما بين دول البحر الأحمر العربية نفسها، اتسمت أحيانا بالتعاون، وأحيانا بالصراع فقد اتسمت هذه المنطقة فى الستينات، بالنزاع المصرع السعودى والذى اشتد خلال حرب اليمن ولكنه تضاءل عقب حرب يونيه 1967، بل أن السبعينات شهدت تعاونا مصريا سعوديا ولكن ما زالت هناك عدة نزاعات بين اليمنين الشمالية والجنوبية، وبين السعودية واليمن الجنوبية (47).
وإذا حاولنا أن نتابع تطور علاقات اليمن بشركائها العرب فى البحر الأحمر، فسوف نبدأ بالأردن، يلى ذلك مصر، السعودية، اليمن الجنوبية.
فبالنسبة للعلاقات اليمنية الأردنية، نلاحظ أنها مرت بدورة كاملة من الوئام والخصام، وذلك من خلال نحو ربع قرن من الزمان، بدأت عام 1932 بتفاهم الأمام يحى والأمير عبد الله أمير شرق الأردن، على شن هجوم على خصمهما المشترك ابن سعود ثم تدهورت العلاقات بينهما ووصلت ذروتها حين تحالفت المملكة الأردنية مع السعودية لمناصرة القوات الملكية، التى كانت تقاتل جمهورية اليمن فى الستينات وسحب الأردن اعترافها بالحكومة الجمهورية فى فبراير 1967 وأخيرا بدأ منحنى العلاقات فى التحسن من جديد خلال السبعينات، فشهد عام 1975 توقيع اتفاقية عسكرية فى 5 أبريل بين الجمهورية العربية اليمنية والأردن، تتولى بمقتضاها تدريب القوات اليمنية على الأسلحة الأمريكية، حيث يوجد فى صنعاء نحو مائة وستة وثلاثون ضابطا أردنيا (48).
أما العلاقات اليمنية المصرية، فأنها تستأهل وقفة قصيرة، حيث أن هذه العلاقات تبدو فى نظر بعضهم منذ القرن الخامس الهجرى كما لو كانت فصولا دورية من غزوات متعاقبة ولم يحدث، فى نظرهم، أن انضمت اليمن إلى مصر طواعية واختيار وباستثناء فترة حكم الصليحيين الذى ازدهرت فيه العلاقات بين البلدين ازدهارا عجيبا بحكم الولاء العقائدى الصليحى للائمة الفاطميين من أهل البيت فقد ظلت العلاقات بينهما علاقات غزو عبر الحملات العسكرية التى اتصلت فيها اليمن بمصر (49). إلا أن هذا التفسير، تعوزه الدقة العلمية وذلك لأكثر من سبب فالعلاقات المصرية الإقليمية (أى تلك التى تشمل كل بلدان المنطقة المحيطة بما فيها اليمن) تراوحت على مر التاريخ بين التجارة والهجرات والغزوات وحكم اتجاهها منطق كل عصر ففى عصر الأسرة الثامنة (1580-1322 ق.م) وحتى حوالى سنة 200 ق.م كانت للمصريين صلات تجارية مع بلاد بونت، وبلاد بونت هذه فى رأى أكثر الباحثين، تشمل المناطق العربية والأفريقية المحيطة بباب المندب فضلا عن أن دور مصر فى المنطقة ينبع من عدة اعتبارات لعل من أبرزها فى هذا المقام، هو الموقع الجغرافى والتاريخى الذى ألقى عليه مهام إقليمية وقومية فبالنسبة لليمن، تدخلت عام 1515 لمطاردة النفوذ البرتغالى (50). ثم كانت حملة إبراهيم باشا فى إطار الحفاظ على تماسك الإمبراطورية العثمانية التى كانت تمثل وقتذاك العالم الإسلامى فى مواجهة أطماع الاستعمار الأوروبى، الذى كان قد بدأ بسلخ عدن عام 1839. وأخيرا، فإن المسألة المعاصرة التى نحن بصددها، وهى أن مسارعة مصر لمؤازرة النظام الجمهورى الوليد عام 1962 لم يكن غزوا وإنما كان باصطلاح محايد لا يعدو تدخلا لمناصرة حركة قامت للتخلص من حكم استبدادى ظالم متخلف وعلى أية حال، فإنه بعد الهدوء الملحوظ الذى ساد مسرح التنافس العربى فى السبعينات وحتى بعد حرب أكتوبر 1973، ظل الدور المصرى فى البحر الأحمر قائما لا يمكن إنكاره وعلى حد تفسير كاتب بريطانى، أكد أن القدرة على التحكم فى الملاحة فى مضيق باب المندب، ليست حاليا فى يد أى من أثيوبيا أو اليمن الديمقراطية الشعبية أو الجمهورية العربية اليمنية، أكثر مما فى يد القوى الأخرى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى ومصر وفرنسا ورغم أن مصر سمحت منذ عام 1973 لسفن كل الدول بحرية الملاحة، فإنها ترغب فى الاحتفاظ بقدرتها على إعادة فرض القيود على الملاحة الإسرائيلية فى المنطقة، فى حال رفض إسرائيل الانسحاب من الأراضى المصرية المحتلة (51).
ومهما يكن من أمر، فإن السياسة اليمنية درجت إزاء مصر، على التزام مسارها التقليدى:
علاقات طبيعية، مع دورات متجددة من التقارب الشديد (بالغزو العسكرى أو التحالف الحربى) مثل حملة إبراهيم باشا، ومساندة النظام الجمهورى عام 1962، يعقبها هدوء طويل يتسم بالعلاقات الطبيعية الرتيبة وهذه هى المرحلة التى بدأت بعد انسحاب القوات المصرية فى أكتوبر 1967 ومع ذلك فقد أضحى هناك اتجاه ثابت فى السياسة اليمنية، تقرره الحكومات المتعاقبة، وهو الاعتراف، من حين لآخر، بالدور التاريخى لمصر فى مناصرة الجمهورية ولكن يتعذر فهم السياسة اليمنية إزاء مصر وحدها، ما لم تدخل فى الاعتبار العلاقات اليمنية فى الاتجاهين الآخرين: الشمال (السعودية) وناحية الجنوب (عدن).
فبالنسبة للسعودية، يمكن القول أن حادثة تنومة عام 1922 كانت بداية سيئة لسلسة من التوترات بلغت ذروتها فى الحرب المعروفة بين البلدين عام 1934 (52) وبعد إبرام المعاهدة، استمرت العلاقات الطبيعية بين البلدين، وتصاعدت إلى درجة التحالف (مع كل من السعودية ومصر) عام 1956 والذى كان فى إطار النظام الإقليمى العربى تجمعا ضد بغداد نورى السعيد ثم انقلب إلى تطاحن خلال الفترة 1962 1967 بعد قيام الجمهورية (فى علاقة عكسية مع شدة التحالف المصرى اليمنى) وأخيرا تحول إلى تعاون وطيد (فى علاقة طردية مع التقارب المصرى السعودى) وذلك فى مواجهة الخصوم داخل النظام الإقليمى للبحر الأحمر حتى أننا نجد المقدم أحمد الغشمى (الذى كان عين نائبا للقائد العام للقوات المسلحة اليمنية فى 4 مايو 1975) يصرح فى يوليو من ذات العام، بأن الجيش اليمنى تجرى إعادة تنظيمه وذكر أن المملكة العربية السعودية، تساعد اليمن بسخاء، ولا تمنع عنها شيئا . 
أما بالنسبة للعلاقات مع اليمن الجنوبية، فقد حكمتها عدة اعتبارات، لعل أهمها الوجود البريطانى فى عدن (قبل الاستقلال)، ثم الميل نحو المعسكر الاشتراكى بعد ذلك وكأنما قدر للعلاقات بين اليمنين الشمالية والجنوبية، شأنها فى ذلك شأن السياسات الخارجية للدول حديثة الاستقلال، أن ترث تركة السيطرة الإمبريالية السابقة، من منازعات الحدود الاستعمارية (أى التى رسمتها السلطات الاستعمارية) فضلا عن العوامل الجديدة الناشئة عن الاستقلال والبحث عن دور، بالإضافة إلى مضاعفات الاستقطاب الدولى الناجم عن التقارب أو الانحياز لهذا العملاق أو ذاك وما يتمخض عن ذلك من خصومات أيدلوجية وعقائدية.
وعلى الرغم من محاولات الوساطة العربية، سواء من قبل الجامعة العربية أو ليبيا، والتى انتهت باتفاق عام 1973، السابق الإشارة إليه، فقد تجددت أعمال العنف بين البلدين وتزايدت أعمال التخريب فى المناطق الجنوبية فى أوائل مارس 1975، وطالب وزير الداخلية اليمنى حكومة عدن بالالتزام باتفاق 1973 بعدم السماح بأى نشاط تخريبى ضد بعضها بعضا  ثم اجتمع رئيس شطرى اليمن المقدم الحمدى وسالم ربيع فى 15 فبراير 1977 بمطار قعطبة الواقع على الحدود، وذلك لبحث موضوع الوحدة بين البلدين . 
وأعقب ذلك قدر من التقارب، لدرجة أنه تردد أن البلدين كانا على وشك عقد اتفاق للوحدة فيما بينهما فى أكتوبر 1977، لولا اغتيال الرئيس اليمنى الراحل المقدم إبراهيم الحمدى فى الحادى عشر من ذات الشهر على أية حال فإن اليمن الجنوبية تبرر هذا النجاح الذى تحقق إلى تجاوز التحفظات فى طرح القضايا واتفاق الطرفين أثناء محادثتهما الأخيرة حول مسألة السيادة الوطنية وتحقيق نظام مركزى يساعد على تهيئة الظروف لوحدة الأرض والشعب اليمنى (56).
كما أن حكومة الجمهورية العربية اليمنية، أكدت على لسان رئيسها المقدم أحمد الغشمى فى نوفمبر 1977 على الوحدة بين الشطرين، فإذا كانت تؤيد وحدة كوريا بشقيها، فمن باب أولى أن تكون مؤيدة للوحدة وأهميتها بالنسبة لأبناء اليمن فى الشطرين ومن ثم لا بد من استمرار اللجان فى أعمالها، حتى يستمر الحوار منطقيا وموضوعيا لصالح الشعب اليمنى كله (57).
ولكن ما لبثت الخلافات أن تفجرت بين البلدين حينما اتهمت اليمن الشمالية الدوائر الحاكمة فى عدن باغتيال الرئيس اليمنى أحمد الغاشمى فى 24 يونيه 1978 وما أعقب ذلك من انقلاب داخل حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية راح ضحيته رئيسها سالم ربيع، وما ترتب على ذلك من توتر العلاقات بين الدولتين خلاصة القول، أن فهم طبيعة السياسة اليمنية فى البحر الأحمر، يمكن أن يتحقق من خلال أبعاد ثلاثة:
الأول يتعلق بالسلوك اليمنى الدولى عامة، فى إطار نظرية السياسات الخارجية للدول الصغرى، والثانى يتعلق بموقف اليمن من مسألة الملاحة فى المداخل الجنوبية للبحر الأحمر، والثالث يتعلق بتفسير المفهوم اليمنى لأمن البحر الأحمر.
فبالنسبة للبعد الأول، فإننا نتبينه بفحص وظائف الدول الصغرى فى الاستراتيجية الدولية ويرى علماء العلاقات الدولية، أن القوى العظمى، تجد عدة فوائد فى الدول الصغرى منها أن تكون بمثابة مناطق عازلة أو حاجزة، أو بمثابة قاعدة ارتكاز، أو مصدر للمواد الخام أى أن هذه الدول تقوم بثلاث وظائف رئيسية: سياسية، واستراتيجية، واقتصادية ويتمثل الدور السياسى فى رغبة الدول الصغيرة المحايدة، فى أن تلعب دور الوسيط فى صراعات القوى أما الوظيفة الاستراتيجية، فتتلخص فى أن تكون الدولة الصغرى، بمثابة منطقة عازلة بين دولتين أو قوتين أو كتلتين دوليتين متنافستين (58).
وبتطبيق هذا التحليل على الجمهورية العربية اليمنية، نجد أن الدور السياسى أو الاقتصادى غير واردين بصورة واضحة، ومن ثم فإن الدور الاستراتيجى، هو الباقى لليمن الشمالية، إذ يمكن أن تكون منطقة عازلة أو حاجزة، لتحول دون صدام مصالح العملاقين: السوفيت فى اليمن الجنوبية وأثيوبيا والمحيط الهندى، والأمريكيون وآبار النفط فى منطقة الخليج.
أما بالنسبة لموقف اليمن من مسألة الملاحة فى المداخل الجنوبية للبحر الأحمر، فيوجد تشابه بين الدول الثلاث التى تتحكم فى المضيق، وهى اليمن الشمالية واليمن الجنوبية وأثيوبيا، إذ أنها جميعا لا تعارض، من حيث المبدأ، فكرة تدويل أجزاء معينة من المضيق وقد أشار ناطقون رسميون باسم هذه الدول، إلى أن تدويل بعض الجزر المتنازع عليها، مثلا قد يكون فى صالحها المادى ما دام أن هذا التدويل، لا يفرض من قبل القوات البحرية التابعة لقوى خارجية غير أن هذه الدول، تصر حاليا، على أن القانون الدولى، يمنحها الحق فى فرض حصارها على تلك الأجزاء من باب المندب، والتى تقع ضمن مياهها الإقليمية، وذلك فى زمن الحرب كما تستشهد هذه الدول بمثابة الأمم المتحدة، الذى ينص على حق كل دولة فى الدفاع عن نفسها ورغم التشدد المعلن من الجانب العربى إزاء مسألة الملاحة الإسرائيلية فى المضيق فإن الموقف الملاحظ لدول المضيق الثلاث اليمنين وأثيوبيا هو أنه يحق لكل السفن ذات الطابع غير العدائى، والتى تخص كل الدول، بالمرور فى المضيق، بغض النظر عن جنسيتها.
وجدير بالذكر، أن إيران كانت من بين الداعين إلى قيام سيادة جماعية على مضيق باب المندب، وتوفير حرية الملاحة للسفن الإيرانية فى هذا المضيق، دون عوائق تقف فى وجهها هذا وتستفيد إيران أيضا من اتفاقها المتزايد الذى جاء فى حينه مع سلطنة عمان واليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، بشأن الحاجة إلى السيادة الساحلية على المياه الإقليمية فى مضيق هرمز (بين إيران وعمان) ومضيق باب المندب وقد أرسلت كل من هذه الدول وفودا إلى مؤتمر القانون البحرى لسنة 1974حيث وقفت بحزم، مع الدول الأخرى المطلة على هذين المضيقين، إلى جانب هذه الفكرة . ومهما يكن من أمر، فإن الدول الساحلية المذكورة، ومن بينها اليمن الشمالية، ومن ورائهم أشقاؤهم الأعضاء فى المنظمات الإقليمية كالجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، مصممون على عدم السماح بتسوية مسألة السيادة على الممرات المائية (باب المندب ومضيق هرمز) من قبل دول ليست لها واجهة على مياهه، وهم يتخوفون فى حالة فرض مثل هذه التسوية، التى قد تقوم على أساس إخضاع هذه الممرات لسلطة الأمم المتحدة، أو ميثاق تفرضه القوى الخارجية، على غرار ميثاق القسطنطنية، أو ميثاق مونتريه، (كما حدث بالنسبة لقناة السويس أو المضايق التركية) أن يؤدى ذلك إلى نظام قد يهدد مصالح دولهم. 
أما المفهوم اليمنى لأمن البحر الحمر، فيمكننا أن نتعرف عليه من خلال تصريحات القادة اليمنيين أنفسهم فقد صرح الرئيس اليمنى الراحل المقدم الحمدى فى افتتاح مؤتمر تعز فى 22 مارس 1977 والذى ضم رؤساء كل من اليمنين الشمالية والجنوبية والسودان والصومال صرح بأن المؤتمر ليس مظاهرة ضد أحد، ولا من أجل التآمر على أحد، أننا هنا فى الجمهورية العربية اليمنية، ندرك أن هناك من يحاولون زج الدول المطلة على حوض البحر الحمر فى حلبة الصراع الدولى، ولذا فإن علينا مسئولية عظيمة، تلك هى الخروج بأوطاننا من شباك الصراع الدولى ثم أكد البيان الصحفى الصادر فى مؤتمر تعز، بأنه يجب أن يظل البحر الأحمر منطقة سلام ووئام، وأن الرؤساء اتفقوا على استغلال ثروات البحر الأحمر، لما فيه مصلحة شعوب الدول المطلة عليه، وعلى مواصلة الجهود لعقد لقاء موسع يضم كافة الدول المطلة عليه . وفى حديث صحفى للرئيس اليمنى المقدم أحمد الغاشمى، فى 2 نوفمبر 1977، أكد حرص اليمن على مصالحها الوطنية فى البحر الحمر وعلى مصالحها المشتركة مع الدول الأخرى، ولذا فهى حريصة على بقاء البحر الأحمر بمنأى عن أية صراعات، ليستمر بحرا آمنا مستقرا . 
معنى ذلك، أن مفهوم السياسة اليمنية لمن البحر الأحمر، يتلخص فى أن يظل البحر الأحمر منطقة سلام واستقرار، بعيدا عن الصراعات الدولية، بما يحقق المصالح المشتركة للدول المطلة عليه أى أنها تأخذ فى الاعتبار، أطراف النظام الإقليمى للبحر الأحمر، ولكن فى نفس الوقت تضعه فى مكانه الصحيح بين أولوية السياسة الخارجية اليمنية صفوة القول أنه يمكن إيجاز القواعد العامة التى يمكن استخلاصها من السلوك اليمنى الخارجى فى البحر الأحمر، فى النقاط التالية:
أولا: أن هناك محورين رئيسيين ارتكزت عليهما السياسة اليمنية، وهما، التعاون مع حليف محلى، مع الاستناد إلى حليف دولى وذلك فيما يتعلق بحركتها فى حوض البحر الأحمر، ويتزايد الاعتماد على الحليف الدولى، إذا تناقصت قوة الحليف المحلى، أو تقلص نفوذه، ويضطر الاعتماد على الحليف المحلى، فى حالة احتدام الصراع الإقليمى فى المنطقة.
ثانيا: أن التحالف المحلى، يجرى وفقا لما نعتبره نسقا من النظم الفرعية للصراعات الإقليمية حيث تبدو الأولويات من منظور يمنى على النحو التالى: النظام الفرعى لجنوب غرب الجزيرة العربية (اليمن الشمالية, اليمن الجنوبية السعودية) والنظام الفرعى العربى للبحر الأحمر (يضم إلى جانب الدول السابقة الأردن ومصر ثم السودان والصومال أخيرا) والنظام الإقليمى للبحر الأحمر (يضم إلى جانب الدول السابقة أثيوبيا) ويتدرج تبعا لسلسة من التحالفات داخل النظام الأوسع (أو الأبعد) ضد الخصوم فى النظام الأضيق (أو الأقرب) وهنا يفسر لنا التحالف مع السعودية (بعد 1934، 1956 بعد 1970)، لمواجهة الخطر فى الجنوب (سواء فى عهد الحماية البريطانية على عدن أو بعد الاستقلال)، ثم التحالف مع مصر (1956، 1962، 1967)، والأردن أحيانا (1932) لمواجهة السعودية والتحالف مع مصر والسعودية (السبعينات) لمواجهة أثيوبيا أى أنها تدخل فى تحالف مع أطراف النظام الفرعى الأبعد، لمواجهة خصم فى النظام الفرعى الأقرب أما فى حالة خصم (أثيوبيا) فى نظام إقليمى آخر (شرق أفريقيا) لا تنتمى إليه اليمن الشمالية، فإنها تتحالف ذد هذا الخصم، مع أعضاء النظم الإقليمية الأخرى المتداخلة التى تنتمى إليها.
ثالثها: إذا أدخلنا المتغير الدولى، ونعنى به ارتكاز السياسة اليمنية على حليف دولى، فإن ملامح الخريطة تزداد تعقيدا ولكن تظل تحكم قسماتها قاعدة بسيطة مؤداها: تفضيل الحليف الدولى الجديد (إيطاليا 1926)، على القديم (تركيا) والوافد (روسيا عام 1928، 1956) على المقيم (بريطانيا فى عدن)، والبعيد (الصين إتمام إنشاء طريق صنعاء الحديدة 226 كم فى يناير 1962) على القريب (فرنسا فى جيبوتى وفشل مشروعها لسكة حديد صنعاء رأس الكثيب قرب الحديدة قبل الحرب العالمية الأولى). رابعا: القاعدة العامة أذن هى الدخول فى نسق من التحالفات يقوم على علاقة عكسية مع علاقة القربى الجغرافية فيتم التحالف مع الأبعد ضد البعيد، ومع البعيد ضد القريب، ومع القريب ضد الأقرب وهذا ينطبق على كل من الحليف المحلى والدولى سواء بسواء.
وهذه النتيجة الأخيرة، تعكس مزاج التقوقع، أو بلغة أصح الميل إلى العزلة الذى حكم السياسة اليمنية فى القرن الأخير وهذا يذكرنا جزئيا بما اتفق عليه علماء الصراعات من وجود ظاهرة إن الأقطار المتماسكة أميل للصدام من تلك النائية عن بعضها. 
وهكذا تكشف لنا السياسة اليمنية بحق، أن علاقة الجوار أقرب ما تكون إلى توليد جانب هام من الصراعات الإقليمية فى البحر الأحمر، وما يحيط به مناطق.


المصدر:

http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=214568&eid=3685







أحدث أقدم