علاقة القانون الدولي الإنساني بمنظمة الهلال / الصليب الأحمر | المكتبة الدبلوماسية

علاقة القانون الدولي الإنساني بمنظمة الهلال / الصليب الأحمر


تطورت فكرة الإنسانية على مرّ العصور، وبرزت فكرة صياغة القانون الإنساني لغاية حماية الإنسان من شرور الحرب ومن التعسف في استعمال الحق. وكان هذا التطور متلازماً دائماً مع تطور الحضارات. وكان هدف من يعملون عليها ويناضلون لأجلها منذ أن قام المجتمع الإنساني هو المحافظة على البشر وتوحيدهم وتحريرهم ممن يريدون السيطرة عليهم أو تدميرهم أو استعبادهم.


فقانون حمورابي ملك بابل، يبدأ بالكلمات التالية: "إني أقرر هذه القوانين كيما أحول دون ظلم القوي للضعيف"، وكان يلجأ إلى تحرير الرهائن مقابل فدية.

و(الأعمال السبعة للرحمة الرحمة الحقيقية) في الحضارة المصرية تنص على:

"إطعام الجياع، وإرواء العطاش، وكسوة العراة، وإيواء الغرباء، وتحرير الأسرى، والعناية بالمرضى، ودفن الموتى".

والقانون الإنساني منبثق عن قوانين الحرب التي هي قديمة قدم الحرب والحرب قديمة قدم نشوء الحياة البشرية على الأرض.

تعرف قوانين الحرب اليوم بالقانون الدولي الإنساني، وهو قانون يستند إلى الفكرة القائلة بأن العدو يظل إنساناً على أي حال.

يجب علينا أن نتجنّب الخلط بين مبادئ الهلال / الصليب الأحمر وبين مبادئ القانون الدولي الإنساني التي تتضمنها أساساً اتفاقيات جنيف بشأن حماية ضحايا الحرب.

فالأولى تفيد في كل وقت لتوجيه أعمال الهلال / الصليب الأحمر كمؤسسة خاصة، بينما تنظم المبادئ الثانية التي لها طبيعة رسمية، تصرفات الدول إزاء بعضها في زمن الحرب.

ورغم ذلك فنهاك رابطة تصل ما بين هذين المجالين، فالقانون الإنساني قد نشأة من مبادئ الهلال / الصليب الأحمر، التي لا تزال تستحث نموه وتطوره. وهكذا توجد بعض المبادئ المشتركة من بعض النواحي بين الجانبين، كمبدأ الإنسانية ومبدأ عدم التمييز.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاتفاقيات لدى إضفاء حمايتها على الجمعيات الوطنية للهلال والصليب الأحمر، فإنها تشير في بعض الأحيان إلى الأنشطة التي تتفق مع المبادئ التي وضعتها المؤتمرات الدولية للهلال والصليب الأحمر. (اتفاقية جنيف الأولى 949، المادة 44، والبروتوكول الأول 1977، المادة 81).

وهذه المبادئ في الواقع ليست إلا تلك التي تضمنها إعلان فيينا.

ويحدد النظام الأساسي للهلال / الصليب الأحمر مبادئه بالتالي: "عدم التحيز، العمل المستقل عن أية اعتبارات عنصرية أو سياسية أو دينية أو اقتصادية، عالمية الهلال والصليب الأحمر، المساواة بين الجمعيات الوطنية للهلا الأحمر والصليب الأحمر".

أما أهم هذه المبادئ فهو (مبدأ الإنسانية):

إن المبادئ الإنسانية تنتمي إلى جميع الشعوب، فالناس يختلفون عن بعضهم البعض ولكن الطبيعة البشرية متشابهة في كل مكان، ومعاناة البشر يتساوى جميع الناس في التعرض لها وفي الحساسية إزاءها. وهكذا فإن على الهلال / الصليب الأحمر أن يعلن من القواعد والمعايير ما هو صائب وصالح في كل مكان بسبب اتفاقه تماماً مع طبيعة البشر.

تسلسل المبادئ الأساسية التي هي الأهداف لمنظمة الهلال / الصليب الأحمر، وذلك حسب أهميتها وكما وردت في الإعلان.

المبدأ الأول والأساسي: هو مبدأ الإنسانية ومنه تنبثق كل المبادئ الأخرى.

والمبدآن الجوهريان الآخران هما: عدم التمييز والتناسب إلا أنهما يندمجان تحت عنوان واحد هو (عدم التحيز).

ثم يأتي مبدآن مشتقان هما: الحياد والاستقلال وهما ييسران تطبيق المبدأ الأساسي ويكفلان للهلال والصليب الأحمر ثقة جميع الأطراف. وللحياد والاستقلال صلة مباشرة بعدم التمييز.

أما المبادئ التنظيمية: فلها طبيعة مؤسسية ومنها مبدأي التجرد والعمل الطوعي.

وهما في الإعلان مندمجان تحت عنوان "الخدمة الطوعية".

وأيضاً مبدأي الوحدة والعالمية، وهذه كلها معايير تطبيقية تتعلق بهيكل المؤسسة وسير أعمالها، فنجد أن مبدأ العالمية له طبيعة مختلطة تتعلق بالقاعدة وبالتطبيق على السواء، وهو مشتق جزئياً من قواعد الإنسانية "عدم التمييز"، أما التجرد والعمل الطوعي فهما وثيقا الاتصال بمبدأ الإنسانية. ومبدأ الوحدة مرتبط بمبدأ عدم التمييز.

إن للهلال والصليب الأحمر مذهب عالمية، ويجب أن يكون تطبيقه على نطاق عالمية، وهذا يستدعي تطبيقه في البلدان المختلفة وخاصة عند وقوع المنازعات.

والسؤال هو: هل توجد أية جمعية للهلال أو للصليب الأحمر تضع هذا المذهب الإنساني الرائع موضع التنفيذ، بكامله، وفي كل الأوقات؟ إن هناك عدداً كبيراً من الجمعيات بعيدة كل البعد عن الالتزام بكثير من المبادئ الأساسية للهلال والصليب الأحمر نصاً أو روحاً.

ولنأخذ مثالاً، عدم التمييز في الإغاثات وفي الهيكل التنظيمي والاستقلالية عن السلطات العامة والحياد السياسي والديني ومد نشاط الجمعية إلى كافة الدول.

وأقرب هذه الأمثلة زمناً رفض الحكومة الأمريكية إيصال المساعدات التي أرسلتها سورية عن طريق الهلال الأحمر السوري إلى الشعب العراقي المنكوب من جراء العدوان الأمريكي عليه. وذلك بمنع الصليب الأحمر من استلام هذه المساعدات وتوزيعها.

فهذا التدخل من الحكومة الأمريكية فيه انتهاك سافر لمبادئ هذه المنظمة الإنسانية العالمية التي تقوم على إغاثة الشعوب المنكوبة من أثر الحروب.

وهذا التعاون الذي فرضته القوانين الإنسانية في هذه الظروف استطاعت دولة القضاء عليه لأسباب سياسية ولأنها الأقوى. وهذا يتنافى مع أهم المبادئ والقواعد التي تقوم عليها المنظمة ألا وهي الاستقلالية والحياد.

وهنا يبرز سؤال: أليس من الزيف إعلان ميثاق يوصف بأنه مقدس وفي نفس الوقت نتسامح مع انتهاكاته؟ الحقيقة هي أنه لا يوجد في الحياة شيء مطلق. ومذهب الهلال والصليب الأحمر الذي وضع في لحظة تاريخية معينة، يطبق على عالم حي لا يتوقف على الحركة، وعلى مجتمع يتكون من أناس ليسوا على مستوى الكمال. وهو يمثل في بعض الأحيان مثلاً أعلى يمكننا أن نستلهمه، أكثر مما يمثل قانوناً صلب القواعد صارم المواد.

ندرك أن اللجنة الدولية من حقها قانونياً، في الحالات الخطيرة أن تسحب الاعتراف الدولي بأي جمعية وطنية إذا هي سلكت مسلكاً فيه تناقض صارخ مع "شروط الاعتراف" ومنها بصورة خاصة "احترام المبادئ الأساسية للهلال والصليب الأحمر".

إلا أننا نأمل بتجاوز هذه المحن والعقبات، طالما بقيت روح الهلال والصليب الأحمر، تلك الروح التي تجعل من هذه الحركة حقيقة حية متماسكة، فلن يكون للعقوبات محل، أما إذا تلاشت هذه الروح، فما من ريب في أن العقوبات سوف تعجز عن فرض الالتزام.

وهكذا، فبينما تشرف اللجنة الدولية بكل تيقظ على صيانة مبادئ الهلال والصليب الأحمر وهي تستهدي بالقول المأثور: "قوة في العلم ولطف في الوسيلة".

عندما نشرت اللجنة الدولية قبيل الحرب العالمية الثانية، شروط الاعتراف بالجمعيات الوطنية للهلال والصليب الأحمر التي صاغتها بنفسها أضافت إليها التعليق التالي: "وإذ تأخذ اللجنة الدولية في اعتبارها بصورة خاصة تعقد الأوضاع القانونية الدولية لمجموعات الدول المختلفة، فإن اللجنة تجد نفسها مضطرة إلى تفسير هذه المبادئ بدرجة معينة من المرونة، آخذة في حسبانها الظروف الخاصة في كل حالة على حدة". إن هذا التحفظ إجراء رشيد، وهو ينطبق أيضاً على مبادئ الهلال / الصليب الأحمر.

إن الجمعيات الوطنية هي أجهزة معاونة للسلطات العامة التي تحتاج الجمعيات مساندتها التامة، والتي يجب أن تقيم معها علاقات تسودها الثقة الكاملة، وعندما تستمر جمعية ما لفترة طويلة مخالفة لأحد المبادئ، فلابد أن يكون السبب هو ما يفرضه عليها القانون أو سلطة الدولة من مطالب لا مهرب منها.

إلا أنه مهما جرى من الأحداث والأسباب، فمن المهم الإخلاص لهدف وروح الهلال / الصليب الأحمر، فهذا الهدف وهذه الروح قد نصت عليهما المبادئ الجوهرية التي رأينا أنها تسمو في مكانتها عن غيرها، ولا يستطيع الهلال / الصليب الأحمر أن يتخلى عنها بأي ثمن، وسوف يظل دائماً مؤمناً بها وإلا فلن تقوم له قائمة.
ولنؤمن بالحكمة اليابانية: "التفكير بغير عمل لا يؤدي إلى شيء ولكن العمل بغير تفكير يؤدي إلى كارثة"، فالنفكر ولنعمل ونأمل بالنجاح.


المحامية
أسيمة النابلسي
دمشق ـ سوريا


أحدث أقدم