المطامع السعودية التوسعية في اليمن (الجزء الثاني) | المكتبة الدبلوماسية

المطامع السعودية التوسعية في اليمن (الجزء الثاني)


د. محمد علي الشهاري

      لم يقتصر نفوذ السعوديين على عسير وتهامة اليمن، وانما امتده عام 1805م ـ من خلال عبد الوهاب ابي نقطة أيضاً ـ رجلهم ومعتمدهم الأول في اليمن كلها ـ إلى نجران، دون ان تتمكن الفصائل السعودية ـ على أي حال ـ من الاستقرار فيها.
      وفي عام 1224 هـ (1809 ـ 1810م) حاولت قوة سعودية الوصول إلى حضرموت، ولكن كان مصير أكثرها الفناء، وهو نفس المصير الذي لقيته قوة أخرى بعثت إلى هناك عام 1226 (1811م).
      أن مما ساعد على تقدم النفوذ السعودي في اليمن افول قوة ومجد الدولة القاسمية، وضعف الامام المنصور، وتضعضع مكانته، وبلغو الاوضاع في صنعاء نفسها درجة المن التدهور والتردي، جعلت القبائل تتمرد عليها،وتخرج على الامام ذاته، وتحاصر العاصمة عام 1223 هجرية (1808 ـ 1809).
      غير انه منذ هذا العام أخذت هذه الموجة التوسعية السعودية التي كانت، قد وصلت أيضاً إلى العراق، تتراجع وتنحسر، وشرعت الدولة الوهابية الأولى تتعرض منذ عام 1811 لضربات جيش محمد علي، وتترنح وتتهاوى تحتها، حتى تم له القضاء عليها تماماً في بضع سنين، في نفس الوقت الذي تقدمت فيه فيالق من هذا الجيش القوي والحديث نسبياً صوب عسير وتهامة اليمن، وحل بذلك نفوذ محمد علي باشا حاكم مصر محل النفوذ السعودي في هذه المنطقة من اليمن، حتى بلغ تعز، قبل أن تتحول اليمن كلها ـ باستثناء منطقة صعدة، حصن الامامة الحصين، والمنطقة الجنوبية التي كانت قد وقعت تحت السيطرة البريطانية منذ عام 1839 ـ إلى ولاية تركية، بعد خروج جيش محمد علي عام 1840 من اليمن والجزيرة العربية كلها، وبعد وصول طلائع الغزوة العثمانية الثانية، ابتداء من1849، والتي كانت قمتها حملة 1872 التي استكملت بها عملية الغزو.
      ومنذ هذا الوقت اشتغلت البلاد بانتفاضات ثورية متلاحقة ضد الاحتلال التركي، حتى تم اجلاؤه مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
      ولقد كانت حركة الاحداث التاريخية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر والى عام 1934 متجهة ـ موضوعياً ـ صوب تحقيق مهمة تاريخية عظمى وجليلة، هي بعث دولة اليمن المركزية الموحدة.
      لقد كانت نضالات الشعب اليمني خلال هذه الحقبة الحيوية من تاريخ اليمن،والتي كانت مركزة ومصوبة ضد الاحتلال العثماني، والاستعمار البريطاني، والتوسع السعودي، والتجزئة الاقطاعية والتفكك العشائري، تدور ـ تاريخياً ـ حول محور واحد، وتستهدف غاية واحدة، الا هي محور اقامة دولة يمانية موحدة مستقلة.
       ان هذه الحقيقة التاريخية والساطعة هي ما حاول الباحث دراستها وبلورتها، والبرهنة عليها في رسالتي لنيل الدكتوراه (النضال من أجل اقامة دولة يمانية موحدة مستقلة منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى عام 1934) التي قدمتها عام 1963 إلى كلية الفلسفة التابعة لجامعة كارل ماركس في ليبرج بجمهورية المانيا الديمقراطية تحت اشراف الاستاذين الجليلين والمؤرخين القديرين برفسورماركوف ـ وبروفسور راتمان.
  
      وهذا العمل الذي اقدمه هنا بين يدي هذه المقدمة والنبذة التاريخية يتكون من بابين "انتزعتهما انتزاعاً من قلب الرسالة البالغة في مجموعها ستة أبواب، ومما "هون" علي عملية (الاقتطاع) هذه انهما يشكلان معا وحدة موضوعية بالفعل، ويمثلان ركناً قائماً بعينه فيها، ويدللان بذاتهما على طبيعة الصراع الذي كان محتدما خلال هذه الحقبة بين حركة التوحيد والتحرير اليمنية المتجهة نحو اقامة دولة يمنية موحدة، وبين قوى التوسع الإقليمية العربية، وقوى التسلط الاستعمارية التي وقفت في وجهة هذه الحركة، وعملت على احباطها واجهاضها.
والدافع المباشر إلى "سلخ" هذا الجزء من الرسالة ـ الذي باستثناء اضافة بعض النصوص العربية المعززة والقليلة جداً، وبعض الاستطرادات في الصياغة العربية النادرة جداً يعتبر ترجمة حرفية دقيقة للنص الالماني، ـ والداعي إلى اصدراه بشكل مستقل في كتاب خاص تحت عنوان متميز "الجذور التاريخية للمطامع التوسعية في اليمن". هو ذلك الصدى السلبي لذلك البيان اليمني ـ السعودي الذي صدر في 17 ـ 3 ـ 1973 بشأن عسير ونجران.
      لقد بين رد الفعل الغاضب لقوى البلاد الوطنية إلى أي مدى تتمتع الشعوب بذاكرة تاريخية لا تنسى، وبوعي وطني مدهش يفوق خيال حتى المؤرخين المختصين، ودلل إلى أي مدى يتوفر لدى الجماهير الشعبية احساس حاد ومرهف بالانتماء الوطني ـ حتى ولو لم تكن لديها معرفة علمية متخصصة عن تاريخها والتمسك بوحدتها الإقليمية والسياسية، وبحقها في النضال من اجلها، حتى تحققها، وتستكمل بها ذاتها الوطنية، وشخصيتها السياسية، واعتبارها التاريخي. وعندما كتبت رسالتي للدكتوراه منذ عشر سنوات ـ ومنها هذان البابان المتعلقان بعسير ونجران ـ بحافز اكاديمي، ودافع وطني لم يكن في خاطري حينئذ ماذا سيحدث بالضبط في المستقبل بشأن هذين الاقليمين اليمنين،وما إذا كانت قضيتهما ستصبح مشكلة سياسية ذات يوم.
      وهمي بتقديم هذا الكتاب ـ وقد غدت قضية عسير ونجران محور اهتمام الرأي العام اليمني كله، وقد اصبحت قضية الوحدة اليمنية الشغل الشاغل لجماهير وقوى العشب الوطنية، وموضع رعاية الدول الوطنية العربية، ومن مهام الجامعة العربية أيضاً ـ همي هو الاسهام في تعزيز الوعي التاريخي، وتعميق الحس الوطني، بقضية وحدة الوطن اليمني، وتأكيد أن قضية تحقيق دولة اليمن الموحدة المركزية، الوطنية المستقلة، عملية تاريخية، بدأت حركتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولا تزال حتى الآن في حالة حركة ونمو وتبلور. وليس من المبالغة في شيء القول في انها اوشكت الآن على الدخول في مرحلة التجسد التاريخي والتحقق السياسي.


Previous Post Next Post