الأبعاد السياسية لـ"النصر الدبلوماسي" التركي على إسرائيل | المكتبة الدبلوماسية

الأبعاد السياسية لـ"النصر الدبلوماسي" التركي على إسرائيل


      بعد ثلاث سنوات من التوتر والاضطراب في العلاقات التركية - الإسرائيلية، أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على الاعتذار لنظيره التركي، رجب طيب أردوغان، عن حادثة مقتل تسعة مواطنين أتراك في المياه الدولية، وذلك بعد أن قامت قوات الكوماندوز الإسرائيلية في مايو 2010 بالهجوم على "قافلة الحرية" التي نظمها عدد من النشطاء الدوليين، الذين حاولوا كسر الحصار البحري الذي فرضته إسرائيل حول قطاع غزة.

       وعلى الرغم من أن الاعتذار الإسرائيلي يمثل "الحدث الشرطي"، بالنسبة لتركيا، من أجل عودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، على مساراتها السياسية، أو الاقتصادية أو العسكرية، فإن تطورات ما بعد الاعتذار تشير إلى أن "حالة الجفاء" التي تمخضت عنها مرحلة التوتر، وما يمكن أن يطلق عليه "العداء"، قد جعلت من تحقق ذلك يحتاج إلى فترة طويلة، ليس فحسب لكي تسمح بإعادة تفعيل الاتفاقات التي جمدت، ولكن بالأساس لكي تعيد بناء جسور الثقة التي تهدمت بين الطرفين.
       لقد بدا من ردود أفعال تركيا حيال الاعتذار الإسرائيلي الذي جاء في 22 مارس 2013، خلال اتصال تليفوني بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ونظيره التركي، أنها رأت أن "النصر الدبلوماسي" الذي تحقق لا يرتبط بعودة العلاقات، وإنما بإجبار إسرائيل على الاعتذار، وقبول "الشروط التركية" لإعادة تصويب مسار العلاقات، من حيث الإعلان عن تعويض أسر الضحايا الأتراك، ورفع الحصار عن قطاع غزة.
وينبني ذلك أيضا على طريقة الاعتذار ذاتها التي جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي يُقدم على الاتصال بنظيره التركي، حينما كان (نتنياهو) يجلس بجوار الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مطار بن جوريون، قبيل مغادرة الأخير إلى الأردن، وهو ما يعكس الأهمية الاستراتيجية التي باتت تتمتع بها أنقرة، ليس من منظور أهمية علاقاتها بإسرائيل، وإنما ارتباطا بدورها المركزي على مسرح عمليات الشرق الأوسط، على النحو الذي بات يدفع واشنطن إلى التدخل من أجل الضغط على إسرائيل للاعتذار والاستجابة لكامل المطالب التركية.

"مقدمات الاعتذار":
       هناك العديد من المؤشرات التي أوضحت أن العلاقات التركية – الإسرائيلية قد تشهد تحولا في المسار من جراء تطور دراماتيكي، تُقدم عليه إسرائيل وتعيد به العلاقات إلى سابق عهدها. وقد تمثلت هذه المؤشرات في العديد من التصريحات التي صدرت خلال الشهور الماضية عن القيادات الإسرائيلية التي تحدثت عن ضرورة إعادة العلاقات مع تركيا، بل وتطويرها.وقد كان الهدف الأساسي من ذلك محاولة إذابة الجليد بين البلدين، عبر الإدلاء بتصريحات تشير إلى احتمال التوصل إلى صيغة توافقية لإنهاء حال التوتر في العلاقات، وذلك انطلاقا من التقدير الإسرائيلي لأهمية تركيا، وفاعلية دورها المركزي في الإقليم، وفي ضوء المتغيرات الطارئة والمتسارعة.
       وفي هذا الإطار، أعلن وزير الدفاع السابق، إيهود باراك، في 25 يوليو 2012 ، أمام خريجي "المعهد الوطني للأمن"، أن تحالفا مع تركيا من شأنه أن يكون عنصرا رئيسيا في الاستقرار الإقليمي". وقال باراك إن "تركيا إلى جانب إسرائيل تمثلان عنصرين مركزيين لتحقيق الاستقرار الإقليمي والتوازن الاستراتيجي". هذا فيما أشار وزير الخارجية السابق، أفيجدور ليبرمان، إلى أنه لا توجد أسباب كي تقدم إسرائيل اعتذارا لتركيا، ومع ذلك على البلدين أن تجدا طريقة لاستئناف علاقاتهما.
       هذه التطورات أوضحت أن ثمة أحداثا تجري من خلف ستار، تهدف إلى التوصل إلى صيغة تحقق المصالح الإسرائيلية، وتضمن حفظ ماء وجه الأتراك في الوقت نفسه.
       هذه الصيغة لمح إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في لقاء عقد في يوليو 2012 مع مجموعة من الصحفيين الأتراك، حيث أوضح أنه يتعين على إسرائيل وأنقره أن "تواصلا السعي لإيجاد طريقة لاستئناف علاقاتهما، لا سيما  في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، وما يحيط بالمنطقة من تغيرات متلاحقة". هذا في الوقت الذي نشرت فيه صحيفة توادي زمان Today's Zaman أن إسرائيل وتركيا تبحثان عن طرق لإعادة العلاقات بينهما، بعد توتر دام عامين.
       وعلى الرغم من أن الفترة الماضية لم تشهد أية اتصالات "معلنة" بين حكومتي الدولتين- حيث اتسمت كافة الاتصالات بالسرية، ومن خلال الوسيط الأمريكي - فإنه حينما وقع زلزال في تركيا في أكتوبر 2011، فقد أدى ذلك إلى إطلاق "دبلوماسية الزلزال"، حيث اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنظيره التركي لأول مرة لتقديم التعزية، وعرض المساعدة، وردت أنقرة إيجابيا على العرض الإسرائيلي.
       كما شهد ديسمبر 2012 تطورات أخرى، تمثلت في "الصفقة" التي كشف عنها بين تركيا وحلف الناتو، وتقضي برفع تركيا الفيتو عن مشاركة إسرائيل في أنشطة الحلف، مقابل الاستجابة السريعة من دول الحلف للمطالب التركية الخاصة بنشر بطاريات صواريخ باتريوت على الحدود التركية مع سوريا. كما أسهم ذلك في تلبية الولايات المتحدة الأمريكية مطالب تركيا بشأن تزويدها بأسلحة تقدر قيمتها بزهاء 140 مليون دولار لتطوير أنظمة الدفاع الجوي.
       وقد بررت تركيا موافقتها على مشاركة إسرائيل في أنشطة الحلف لعام 2013 بالضغوط التي مورست عليه من قبل الأمين العام للحلف أندرس فوج راسموسن، مؤكدة أنها اشترطت عدم التقاء الجنود الأتراك والإسرائيليين، وأن هذه الخطوة من شأنها أن تدعم علاقات الحلف مع كل من مصر، وتونس، وليبيا. هذا فيما أشارت بعض التقارير إلى أن تركيا شاركت بفاعلية في جهود التهدئة بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وذلك بهدف وقف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة فيما عرف بعملية "عامود السحاب". وقد التقى رئيس جهاز المخابرات التركي، هاكان فيدان، رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي في القاهرة بنهاية عام 2012، وتم الاتفاق على عودة الاتصالات بين الجهازين بعد انقطاع.   

أسباب الاعتذار:
       ثلاثة عوامل أساسية وقفت وراء الاعتذار الإسرائيلي إلى تركيا وهي
 أولاً:  داخلي، ويتعلق بإسرائيل.
ثأنياً: خارجي،ويتعلق بدور تركيا الإقليمي.
ثالثاً:يرتبط بالتطورات السياسية والأمنية التي ترتبت على أحداث ثورات "الربيع العربي".
       وفيما يخص إسرائيل، فقد نضجت شروط الاعتذار منذ فترة طويلة، وذلك في ظل نجاعة استراتيجية تركيا في حصار إسرائيل، والتنديد بسياساتها في كافة المحافل الإقليمية والدولية، هذا بالإضافة إلى الضغوط الأمريكية، ومطالبة بعض القادة في إسرائيل بضرورة العمل على "تطبيع" العلاقات مع تركيا. بيد أن تأخر العمل على إصلاح هذه العلاقات ارتبط بطبيعة المعادلة الداخلية في إسرائيل، حيث سيطرت أحزاب اليمين المتطرف على تشكيل الحكومة، بما حد من قدرة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، على إصلاح العلاقات بين البلدين.
       وقد كان حجر العثرة الأساسي في هذا الطريق مواقف وزير الخارجية السابق أفيجدور ليبرمان، الذي جعل من إفشال جهود تسوية القضايا العالقة بين الطرفين مهمته الأساسية، وظل يدلي بتصريحات إعلامية وسياسية تشبه تصريحات رئيس الوزراء التركي بالعديد من "القادة المستبدين" عبر العالم، كما داوم على تأكيد أن تركيا لم تعد في حاجة إلى علاقاتها مع إسرائيل، بعدما توجهت إلى توثيق تحالفاتها مع القوى الراديكالية في منطقة الشرق الأوسط، سواء على مستوى الدول، أو على مستوى الفاعلين من دون الدول (حماس، وحزب الله).
       هذا بالإضافة إلى أنه عمد إلى توثيق علاقات إسرائيل مع بعض القوى المغايرة، مثل جنوب السودان، وقبرص (الجنوبية)، واليونان، ورومانيا، وبلغاريا، ودفع إسرائيل إلى توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية مع بعض هذه الدول من أجل إثارة غضب أنقرة، وفرض الحصار عليها، وتأكيد أن إسرائيل لديها العديد من البدائل والخيارات في مواجهة السياسات التركية.
       ومع ذلك، فقد أثبتت التجربة العملية أن هذه القوى لا تؤثر على نحو مباشر في أمن الإقليم، لأنها باختصار من خارجه أو تقع على هامشه. لذلك، فبعد الانتخابات الإسرائيلية، وفي ظل عدم قدرة زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"، وزير الخارجية السابق على العودة لمنصبه، بسبب لائحة الاتهام بـ"الاحتيال" التي وجهها  إليه المدعي العام الإسرائيلي، أصبح الطريق ممهدا أمام رئيس الوزراء نتنياهو لإصلاح العلاقات مع تركيا. ويمكن هنا ملاحظة النطاق الزمني القليل نسبيا بين تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وإعلان الاعتذار الإسرائيلي.
       وفيما يتعلق بأنقرة، فقد استطاعت تركيا، منذ اندلاع الثورات الشعبية في بعض الدول العربية، أن ترسخ دورها الإقليمي من خلال تدشين شراكات عديدة مع دول "الربيع العربي"، وعبر تقديم العون والدعم السياسي والاقتصادي إلى التيارات والأحزاب السياسية الصاعدة إلى الحكم في هذه الدول، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤهلها مستقبلا للعب دور أساسي كوسيط إقليمي بين إسرائيل وبعض التيارات والقوى السياسية الإسلامية الصاعدة على الساحات العربية.
       ذلك أن تركيا - وفق بعض التقديرات الإسرائيلية - طريق مثالي إذا ما أرادت إسرائيل تحسين العلاقات مع بعض القوى المحافظة في دول الربيع العربي. يضاف إلى ذلك أن تركيا بالنهاية دولة شرق أوسطية، ولاعب مهم على ساحة الإقليم، إذا ما قورنت بالولايات المتحدة التي انصرفت نسبيا خلال السنوات الأخيرة عن الانخراط الكامل في تفاعلات المنطقة، أو بفرنسا التي تبغي إعادة تأسيس دورها الدولي في المنطقة. وقد شهدت محاولات من قبل وزير الخارجية الإسرائيلي السابق في 24 يوليو 2012 لدفعها للتوسط بين إسرائيل ومصر، بالإضافة إلى بقية دول "الربيع العربى"، حيث قال- خلال لقائه مع نظيره الفرنسي لوران فديوس- "أدعو فرنسا إلى التوسط بين إسرائيل مصر ودول الربيع العربى، وأن تسهم فى رسم وجه جديد لمنطقة الشرق الأوسط".
       وفيما يتعلق بالوضع الإقليمي، فقد شهدت المنطقة متغيرات عديدة، وحالة من السيولة الأمنية، بفعل حالة التوتر والاضطراب الأمني الذي تعانيه دول "الربيع العربي"، الأمر الذي يخلق العديد من التحديات والتهديدات الأمنية، التي تتطلب تعاونا وتنسيقا استخباريا بين البلدين، لا سيما في ظل حالة عدم اليقين التي تسود المنطقة، خاصة حيال تطورات الملف السوري، وتصاعد حدة الثورة الشعبية، وما ستسفر عنه بشأن مستقبل التطورات السياسية والأمنية في سوريا.
       هذا بالإضافة إلى تشكل محور مضاد لأنقرة من قبل كل من سوريا، وإيران، والعراق، والدول الثلاث تشكل تحديا كبيرا للأمن القومي التركي، بالنظر إلى كونها دول جوار جغرافي مباشر إلى تركيا، هذا فضلا عن توتر العلاقات مع روسيا، والتي تعد بدورها دولة جوار غير مباشر، وذلك بفعل تناقض المواقف، وتباين المصالح حيال تطورات الملف السوري، وهى تطورات تحمل تحديات للأمن القومي التركي، لارتباطها بحركة لاجئين سوريين كثيفة تجاه الأراضي التركية، وسيولة أمنية على الحدود المشتركة مع سوريا (877 كم).يضاف إلى ذلك ما يرتبط بذلك من تحديات وتهديدات تتعلق بالنشاط، والاستهداف الكثيف للمواقع الحيوية التركية من قبل حزب العمال الكردستاني، الذي تحاول تركيا في الفترة الأخيرة إنهاء الصراع المسلح معه عبر الآليات السلمية، والمبادرات السياسية.
       وبدورها، تواجه إسرائيل تحديات كبرى بسبب التغيرات والتحولات المستمرة التي يشهدها مسرح عمليات الشرق الأوسط، بفعل الثورات العربية، وما ترتب عليها من تطورات سياسية أفضت إلى إثارة العديد من التهديدات والتحديات الأمنية، لا سيما  في ظل تصاعد أدوار التيارات الإسلامية والسلفية في أغلب الدول العربية المجاورة جوارا مباشرا لإسرائيل كمصر، وسوريا، والأردن، والأراضي الفلسطينية. وقد أسهم ذلك في تعزيز أهمية "تطبيع" العلاقات مع تركيا.

مستقبل العلاقات:
      تشير معظم المؤشرات والتصريحات التركية في "مرحلة ما بعد الاعتذار" إلى أن أنقرة ليست في عجلة من أمرها، وأن تحسن العلاقات مع إسرائيل سيستغرق "بعض الوقت"، مثلما عانت العلاقات بين البلدين توترا دام "بعض الوقت".  وتشير الكتابات الرئيسية لبعض الصحفيين والمحللين في صحف تركية عديدة مقربة من الحكومة التركية إلى ضرورة أن يكون التفاؤل حيال مستقبل العلاقات بين البلدين مشوبا بالحذر، لا سيما أن مطلب رفع الحصار عن قطاع غزة مطلب أساسي بالنسبة لتركيا. وثمة تصريحات إسرائيلية تشير إلى أن أي اتفاق مع تركيا لن يفضي إلى إنهاء الحصار البحري على القطاع، في حين أن أزمة العلاقات بالأساس ارتبطت بمحاولة مواطنين أتراك إنهاء هذا الحصار.
       وفي هذا السياق، بدأ رئيس الوزراء التركي يستغل الاعتذار الإسرائيلي، وليس عودة العلاقات مع إسرائيل، من خلال الإعلان عن توجهه لزيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء في القطاع، أو الضفة، دعما للقضية الفلسطينية، وتحقيقا للمصالحة بين حركتي "حماس" و"فتح". وعلى جانب موازٍ، فقد قام رئيس الوزراء التركي بالاتصال بكل من الرئيس المصري، محمد مرسي، ورئيس الوزراء اللبناني، نبيل ميقاتي، وزعيم حماس، خالد مشعل، قبيل قبول الاعتذار الإسرائيلي.
لذلك، يمكن القول إن تركيا وإسرائيل باتتا تواجهان مشكلات أمنية مشتركة بسبب تداعيات الأزمة السورية. وفي ظل احتمالات تصعيد أزمة الملف النووي الإيراني، يصبح التعاون بين البلدين حاجة أساسية، لا سيما بالنسبة للولايات المتحدة التي تعمل على تحسين العلاقات بين البلدين، ليس فحسب على الصعيد السياسي، وإنما أيضا على الصعيدين العسكري والاقتصادي، لا سيما فيما يخص ثروات الغاز المكتشفة حديثا في شرق المتوسط، ويتطلب تعظيم الاستفادة منها تعاونا تركيا– إسرائيليا مشتركا.
       ومع ذلك، فإن تحقق ذلك لن يرتبط بالرغبة الإسرائيلية، أو بالتقديرات الأمريكية، وإنما بالمصالح التركية التي ترى ضرورة أن تبقى العلاقات مع إسرائيل في حدود ما يحقق مصالح تركيا مع الدول العربية، التي تعاظمت الروابط معها، سواء على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، أو الأمني. 

المصدر : http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/2/105/3001

الكاتب:

محمد عبد القادر خليل - باحث بوحدة العلاقات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتجية، متخصص في شئون تركيا والمشرق العربي، وله العديد من الدراسات والمقالات باللغة الإنجليزية والتركية.
 
 
 
 


أحدث أقدم