السياسات الخليجية كمدخل للتغيير العربي | المكتبة الدبلوماسية

السياسات الخليجية كمدخل للتغيير العربي

د. معتز سلامة
       منذ تفجر الثورات العربية عام‮ ‬2011،‮ ‬وبعد فترة محدودة من المفاجأة عايشتها دول مجلس التعاون الخليجي، أخذت دول المجلس في التفاعل بإيجابية مع الثورات، وتحولت من موقف الحذر المتردد إلى موقف المؤيد والناشط، فكيف حدثت هذه النقلة؟، وما أسبابها وآفاقها؟. لأجل ذلك،‮ ‬جاءت فكرة هذا الملف، الذي انحاز لإطلاق وصف‮ "‬الاشتباك‮" ‬على الحالة الراهنة من إدارة دول المجلس علاقاتها في الإقليم العربي، وذلك من منطلق أن السلوك الخليجي جاء في سياق قرار وقراءة محددة لدول المجلس للتغيرات الإقليمية ومخاطرها وتحدياتها، ومن ثم قررت التحرك الفاعل في الساحة العربية،‮ ‬والإمساك بزمام المبادرة كجزء من رؤيتها الأشمل للمنطقة،‮ ‬واتجاهات التغيير الثوري فيها‮.‬

       وعلى مدى عمر مجلس التعاون الخليجي الذي تجاوز الثلاثين عاما، ظل المجال الخليجي هو الأساس لنشاط الدبلوماسية الخليجية، وظلت دول المجلس عازفة‮ -‬إلى حد ما‮- ‬عن الانخراط في الشأن العربي‮.‬ ولكن مع حلول الثورات،‮ ‬انخرطت في نشاط تفاعلى كثيف، وإلى حد ما أخذت على عاتقها مهمة‮ "‬إدارة‮" ‬النظام الإقليمي في فترة‮ ‬غياب الدول المركزية‮. ‬ويكشف الأداء الخليجي،‮ ‬في سياق مجلس التعاون أو جامعة الدول العربية، أو الساحة الدولية،‮ ‬عن حجم الانخراط في المتغيرات العربية الراهنة‮.‬
       ولقد ظلت المملكة العربية السعودية بمنزلة الممثل الخليجي الرئيسي في قيادة النظام الإقليمي العربي‮ -‬مع كل من مصر وسوريا‮- ‬ولكن شهدت الساحة العربية وافدا خليجيا جديدا، تأكد حضوره بشكل لافت في السنوات الخمس الأخيرة، وهي دولة قطر، التي لم يقتصر دورها على منافسة الممثل الخليجي الأول في النظام العربي، وإنما هددت قيادة النظام برمتها‮. ‬والآن‮ -‬ومع الثورات‮- ‬لم يعد الاشتباك الخليجي عربيا مقتصرا على المشاركة في قيادة النظام‮ (‬السعودية‮)‬، أو المساعدة في إدارته وتسوية أزماته‮ (‬قطر‮)‬، وإنما نشأ قدر من التوحد الخليجي حول المشاركة في الحدث العربي،‮ ‬والعمل على تغييره وإدارته،‮ ‬والإمساك بتحولاته‮.‬
       ويمكن النظر إلى تحركات دول المجلس في الإطار العربي بعد الثورات من منطلق سعيها للبحث عن بدائل،‮ ‬وتحسين الخيارات في التعامل مع مستجدات الحالة العربية‮. ‬ولا تزال عملية البحث عن دور وبدائل مفتوحة، في ظل عملية صنع القرار في الأنظمة الخليجية التي ليس هناك معرفة دقيقة بكيفية صنعها أو اتخاذها‮. ‬ولا تزال دول المجلس في مرحلة انتقالية بين السياسات القديمة التي تشدها إلى استمرار النأي بالذات عن متغيرات الإقليم، والجديدة التي تدفعها للانخراط فيه‮.‬ وبين الاتجاهين،‮ ‬تسير دول المجلس على خيط رفيع‮ ‬غير محسوب العواقب‮.‬
       لقد سعت دول الخليج إلى مواجهة الثورات بأفكار مختلفة‮. ‬ففي السياق الخليجي، برزت دعوة‮ "‬الاتحاد‮" ‬التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الرياض في ديسمبر‮ ‬2011،‮ ‬وهي الدعوة التي واجهت عثرات أدت إلى تراجعها مؤقتا‮. ‬وفي السياق الخارجي،‮ ‬أطلقت الدعوة لضم الأردن والمغرب إلى المجلس، وواجهت هذه الدعوة عثرات أيضا‮. ‬وفي السياق الإقليمي،‮ ‬دخلت مع دول الثورات في توترات بينية‮ (‬مصر والإمارات‮)‬، أو فتور ومشكلات وقتية‮ (‬مصر والسعودية‮). ‬ودخلت في اشتباكات متعددة في الإقليم برمته، كان آخرها اشتباكها الحاد مع النظام السوري،‮ ‬وتأييدها خط الثورة‮. ‬وكانت المفارقة أن الأنظمة التي نظرت دول المجلس بحذر لسقوطها سقطت فعليا، بينما ظل النظام السوري‮ -‬الذي يتوقف على زواله أو بقائه جزء رئيسي من مستقبل التوازنات بالإقليم العربي‮- ‬مستمرا ومعاندا‮. ‬وفضلا عن أن‮ ‬غياب مصر يترك دول المجلس‮ -‬في حالة بقاء النظام‮- ‬واقعة بين ضغط سوري إيراني مزدوج، فإن إمكانية تصور قيام علاقات إيرانية‮ - ‬مصرية،‮ ‬أو محور مصري‮ - ‬إيراني،‮ ‬في ظل حكم الإخوان،‮ ‬هو أحد الأمور التي تتحسب لها دول المجلس، لذلك يأتي الاندفاع الخليجي في الثورة السورية ليؤكد رهانا أساسيا،‮ ‬ومصلحة استراتيجية لدول المجلس‮.‬
وفي إطار النشاط الخليجي الإقليمي، يتوقع أن تقف دول المجلس أمام مجموعة من التحديات،‮ ‬يتمثل أبرزها في‮:‬
- تحدي التباين والتعارض‮: ‬فهناك اختلاف خليجي من الموقف في دول الثورات، وإن كان السقف العام للسياسات الخليجية تجذبه الدول الأكثر فاعلية في ثورات الربيع، وهي بالأساس قطر والسعودية(رغم الاختلاف‮). ‬لكن يظل من الصعب‮ -‬على مستوي السياسات الانفرادية‮- ‬تمييز موقف مختلف عن السابق لأي من عمان أو البحرين، وإلى حد ما كل من الكويت والإمارات‮. ‬ومن ثم،‮ ‬فإنه عند مستويات محددة لا يتوقع أن تشكل دول المجلس كتلة قرارية واحدة‮.‬
 - مفارقة الدعم والمسئولية‮: ‬فرعاية الثورات، وتوجيهها،‮ ‬وتشكيل علاقات مع القوي الثورية المدنية والإسلامية،‮ ‬بأطيافها المتعددة داخل دول الثورة، هو أمر يجعل هناك مزيدا من الانخراط الخليجي في الشأن الداخلي لهذه الدول، ولا يؤسس لعلاقات دول بدول،‮ ‬وإنما بفاعلين أدني من الدولة‮.‬ ومن المرجح أنه في حالات التغيير السياسي الداخلي، وتبدل النخب الحاكمة الناتجة عن انتخابات داخلية بدول الثورات،‮ ‬أن تتأثر علاقات دول المجلس بكل منها،‮ ‬بحسب الوافدين الجدد لعالم السياسة، وهو ما يشكل إحدي المعضلات الجديدة في علاقات دول المجلس بهذه الدول‮.‬
-تحدي السقف الخليجي: فموقف دول المجلس من دعم الثورات ليس مستقلا تماما عن الموقف الدولي‮.‬ ومن ثم،‮ ‬فإنه بقدر ما يبدو متجها نحو أقصي أشكال الدعم أحيانا،‮ ‬فإنه يفتقد الأداة القوية التي تسانده‮.‬ وقد برز ذلك بشكل واضح في سوريا، حيث وصلت دول المجلس إلى قمة دعمها للثورة، ولكنها تجمدت عند سقف المواقف الدولية دون قدرة على التحرك إلى مديات أعلى‮.‬
ويمكن تصور مسارين مختلفين لمستقبل العلاقة المحتملة بين دول الخليج ودول الثورات، في حال استمرار الحالة الراهنة من العلاقات‮:‬
1- مسار التطور الإيجابي للنموذجين المصري والتونسي فيما يتعلق ببناء نموذج ديمقراطي حقيقي، هذا المسار ستنتج عنه ضغوط على دول مجلس التعاون، ولكن هذا المسار لا يبدو متحققا حتى الآن،‮ ‬أو في طريقه للتحقق،‮ ‬حيث دخلت كلتا الدولتين في حسابات داخلية معقدة، يحتاج الخروج منها إلى سنوات ممتدة‮. ‬وهنا،‮ ‬يتوقع أن يظل دور دول المجلس الناشط والفاعل في إدارة النظام الإقليمي العربي مستمرا‮.‬
2- مسار الاضطراب والإخفاق،‮ ‬وارتداد دول الثورات إلى أوضاع ما قبل الثورة، منها الارتداد إلى حكم النخبة العسكرية، وهذا المسار يؤسس لعلاقات من نفس نمط العلاقات العربية المعتادة، حيث تمثل مؤسسات الجيش والأمن أكثر المؤسسات رسوخا، ويعد حضورها أحد صمامات الأمان في العلاقات العربية‮. ‬وسواء حدث اضطراب في مسار الثورات،‮ ‬أو جري الوصول إلى توليفات مدنية‮- ‬عسكرية، ففي كل الأحوال،‮ ‬فإن هذا المسار يجعل لدول المجلس دورا كبيرا خلال الوضعية الانتقالية للنظام العربي‮.‬
       وعلى المستوي الإقليمي، يتوقع أن تسفر الثورة السورية عن مزيد من الاستقطاب السني‮ - ‬الشيعي، واحتمال بروز نمط جديد لـ‮ "‬الجهاد المذهبي‮"‬، تتبدي بعض بوادره مع وجود جهاديين سنة وشيعة في سوريا، ودعم خليجي للسنة،‮ ‬وإيراني للشيعة، وهي معركة يمكن أن تمتد لسنوات،‮ ‬وتدخلها عناصر وفاعلون أدني من الدول، وهم كثر بالمنطقة،‮ ‬بما فيها مجموعات بدول مجلس التعاون ذاتها، مما يفتح مجالا لطائفة واسعة من الاشتباكات اللا محدودة بين الخليج والمشرق العربي، تشير‮ -‬إذا استمر النظام السوري‮- ‬إلى اشتباك جيوبوليتيكي شديد بين الإقليمين تكون فيه إيران،‮ ‬والعراق،‮ ‬وسوريا،‮ ‬وفاعلون من‮ ‬غير الدول كحزب الله على جانب، في مواجهة دول مجلس التعاون وجماعات جهادية سنية وسلفية إقليمية على الجانب الآخر‮.‬
       ويشكل مستقبل الثورة السورية والموقف الخليجي منها رأس الحربة في أنماط التغيير المحتملة في علاقات دول الخليج بدول الثورات، وسوف تصبح سوريا نقطة مركزية لتغيرات كبري في النظام الإقليمي‮. ‬وتترك هذه الثورة وبقاؤها حتى الآن سياسات دول المجلس في وضعية‮ "‬منتصف الطريق‮".‬ فنجاح الثورة وإسقاط النظام سيؤسسان لدور خليجي قوي وفاعل في السياسة العربية‮: ‬عمليا من خلال العلاقات الخليجية بالنخب السورية الجديدة، وفعليا من خلال ارتباط دول المجلس ومسئوليتها من الآن وصاعدا عن سوريا ما بعد الأسد، والذي سيطرح عليها مسئوليات جديدة تجاه أطراف الثورة،‮ ‬وتجاه إعادة بناء الدولة‮.‬
       يبقي أن الدعم الخليجي للثورات العربية هو الحدث الأكبر، والذي يعكس مقدارا من المفارقة، على نحو ما طرحته ورقة د‮. ‬خالد الدخيل التي عملت على تقديم تفسيرات لزخم السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي عربيا،‮ ‬في ظل محدودية الإصلاح الداخلي، على أساس أن الثورات تعكس توجهات ليبرالية وديمقراطية، فكيف دعمتها دول المجلس،‮ ‬وهي الأنظمة المحافظة التي تتعارض مبدئيا مع الثورات؟ وبالنظر إلى تباين سياسات دول المجلس إزاء الثورات، كان من المهم تسليط الضوء على التباين بين السياستين القطرية والسعودية‮ -‬اللتين مثلتا أعلى صور التباين في هذه السياسات‮-‬ وهو ما تناولته ورقة د‮. ‬عبد‮  ‬الخالق عبد الله التي رصدت مؤشرات تكامل بين السياستين بعد تنافس طويل‮.‬
        وكان إدراك حقيقة بوادر التقابل أو ملامح التصادم بين الشرعيتين الإسلامية التقليدية‮ (‬ممثلة في أنظمة دول مجلس التعاون الخليجي‮)‬، والإسلامية الحركية‮ (‬ممثلة في أنظمة الإسلام السياسي الجديدة التي تتبني الإسلام كأيديولوجيا سياسية‮)‬، دافعا إلى ضرورة تلمس جوانب التعارض بين النموذجين للشرعية،‮ ‬على أثر الثورات، وهو ما ركزت عليها ورقة د‮. ‬نصر عارف‮.‬
       وكان من المهم تناول نماذج لسياسات دول المجلس إزاء دول الثورات، وكان أبرز نموذجين دالين على سياسة دول المجلس هما ثورتي اليمن وسوريا، حيث تمثل الأولي حالة سعت فيها دول المجلس للتدخل بشكل محسوب، مدفوعة بإدراكها قيمة اليمن الاستراتيجية كخاصرة للجزيرة العربية والخليج، وهذه الحالة تناولتها ورقة د‮.‬ محمد سعد أبو عامود‮. ‬ثم كان تناول موقف دول المجلس من الثورة السورية كنموذج معبر عن التدخل السياسي والمالي والتسليحي من جانب دول المجلس في الثورات العربية، وذلك ما تناولته ورقة د‮. ‬خالد الحروب‮.‬
       وبدا من الضروري إلقاء الضوء على دور العامل الخارجي في تشكيل سياسات دول المجلس إزاء دول الثورات‮. ‬وفي هذا السياق، كانت ورقة د‮. ‬مصطفي علوي التي ركزت على السياق الدولي كعامل مؤثر في سياسات دول المجلس تجاه دول الربيع،‮ ‬بينما ركزت ورقة د‮. ‬محمد السعيد إدريس على الإطار الإقليمي لسياسات دول المجلس تجاه دول الربيع العربي‮. ‬
        وأخيرا، لم يكن ممكنا تلافي أدوات السياسات الخارجية لدول الخليج إزاء دول الثورات‮.‬ وهنا،‮ ‬جاء التركيز على أبرز أدوات السياسة الخليجية، وهي الأداة المالية،‮ ‬والدعم الاقتصادي، ومن ثم كانت ورقة الباحث الاقتصادي أ‮. ‬أحمد خليل الضبع التي ركزت على أشكال الدعم الاقتصادي الخليجي لدول الثورات‮.‬
       وبشكل عام، فإن أكثر ما يقدمه هذا الملف هو تسليط الضوء على الدور الإقليمي الجديد الذي تلعبه دول مجلس التعاون الخليجي في سياق ثورات الربيع العربي، ومستقبل هذا الدور، وحجم تأثيره في النظام الإقليمي، وهو أمر سيظل لفترة مفتوحا على احتمالات وانعكاسات مختلفة، ليس فقط على الصعيد الإقليمي العربي، أو على الصعيد الإقليمي للخليج، وإنما أيضا على الصعيد الداخلي لدول مجلس التعاون الخليجي‮.‬

(*) تقديم ملف" الاشتباك الخليجي: استراتيجيات التفاعل مع الثورات العربية، العدد 192 ،إبريل 2013
 


أحدث أقدم