الإدارة المسلحة للأزمات الإقليمية والدولية | المكتبة الدبلوماسية

الإدارة المسلحة للأزمات الإقليمية والدولية

سامح راشد
      بعد أن‮ ‬غلب على التطورات العالمية في العام الماضي الاتجاه نحو التسويات السياسية،‮ ‬بالتوازي مع انسحاب القوى الكبرى من المعادلات الأساسية للقضايا الإقليمية،‮ ‬خصوصا في مناطق التوتر،‮ ‬مثل منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬سرعان ما ظهرت نتيجة تلك التوجهات إقليميا وعالميا، وذلك بعودة نمط الإدارة المسلحة للأزمات إلي الظهور مجددا علي حساب استخدام الأدوات السياسية،‮ ‬فيما يبدو جزئيا نتيجة للفراغ‮ ‬الذي أحدثه اتجاه القوى الكبرى إلي عدم الانخراط المباشر في الأزمات‮.‬
‬      شجع ذلك بعض القوى الإقليمية أو الداخلية على محاولة تغيير معادلات ومعطيات مشكلاتها مع الأطراف الأخرى بالقوة،‮ ‬ظنا منها أن القوى الكبرى التي كانت تفضل التسوية السياسية،‮ ‬ثم تخلت عن اهتمامها المباشر،‮ ‬وحرصها على وضع تلك المشكلات في إطار معين لا تتجاوزه، لن تتحرك ولن تمانع إذا ما حدث بعض التغير بشكل ذاتي من جانب الأطراف المعنية‮. ‬وفي حالات أخرى،‮ ‬كان التراجع عن النمط الانسحابي بواسطة القوى الكبرى ذاتها، عندما وجدت ما يستدعي التدخل المباشر،‮ ‬بل واستخدام القوة المسلحة لمواجهة تطورات وأحداث تهدد مصالحها بشكل يستوجب وقفها،‮ ‬أيا كانت الوسيلة‮.‬
       في نمط التحرك الذاتي من الأطراف الأصلية، يمكن رصد حالات التمرد العسكري والانقلاب الذي وقع في إفريقيا الوسطي، ومحاولة التمرد في الكونغو، والتوتر الذي كاد يصل إلي حد مواجهة مسلحة بين الصين واليابان حول الجزر المتنازع عليها بينهما، وأخيرا التفجيرات النووية التي قامت بها كوريا الشمالية‮. ‬ففي كل تلك الحالات،‮ ‬وجدت بعض الأطراف فرصة لاستخدام القوة لتغيير الواقع،‮ ‬سواء لتقويض السلطة القائمة،‮ ‬كما حدث في إفريقيا الوسطي، أو لتثبيت توازن إقليمي جديد،‮ ‬كما أرادت بيونج يانج إفهام جارتها الجنوبية والعالم، أو لاختبار حسابات رد فعل الأطراف الأخرى المعنية،‮ ‬كما بين الصين واليابان‮.‬
       ومن اللافت للنظر أنه في معظم الحالات،‮ ‬كان اللجوء إلي القوة يأتي بعد تطورات أو أحداث ذات دلالة معاكسة تماما‮. ‬فمثلا،‮ ‬قامت حركة سيليكا المتمردة في إفريقيا الوسطي بانقلابها على الرئيس بوزيزي في مارس الماضي،‮ ‬أي بعد أقل من شهرين من التوصل إلي اتفاق سلام بين الطرفين برعاية إفريقية في يناير‮ ‬‭.‬2013‮ ‬وكانت سلسلة التوترات ومحاولات التمرد على سلطة بوزيزي قد أسفرت قبل نهاية العام الماضي‮ (‬2012‮) ‬عن سيطرة سيليكا علي مناطق شاسعة من الدولة، قبل أن يتدخل قادة بعض الدول الإفريقية للتوسط والضغط علي الطرفين لإبرام اتفاق سلام ينهي التمرد‮. ‬إلا أن انتهاك الاتفاق فتح الباب مجددا أمام عودة القوة كأداة،‮ ‬ليس فقط لحسم الموقف الحالي، وإنما أيضا لإدارة الحكم أو إزالته في إفريقيا الوسطي‮. ‬ولا تختلف خلفيات ودوافع اللجوء إلى استخدام القوة مجددا في الحالات الأخرى سوي في التفاصيل المرتبطة بطبيعة وخصوصية كل حالة، لكنها جميعا تتفق في أن اللجوء إلى القوة تبع حالة من الهدوء،‮ ‬أو تبلور مسار سياسي للتعامل مع الموقف، ثم تم وقفه والخروج عنه بشكل مفاجئ‮.‬
ف       ي نمط عودة القوى الكبرى ذاتها إلى استخدام القوة، يقدم التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي مثالا صارخا علي ذلك النمط،‮ ‬حيث قامت فرنسا بالرد علي انفصال أزواد ليس برفض الاعتراف بالدولة الجديدة،‮ ‬أو حشد المجتمع الدولي للضغط عليها سياسيا واقتصاديا، وإنما بالتحرك الدبلوماسي النشط أولا في مجلس الأمن لاستصدار قرار يتيح التدخل العسكري لإنهاء حالة الانفصال، ثم مع الدول الإفريقية لتأمين مواقف مؤيدة للعمل العسكري الفرنسي،‮ ‬ثم للتنسيق بشأن المراحل التالية‮.‬
       بالإضافة إلي حالة مالي، تقدم الأزمة السورية مثالا آخر علي تغيير القوى الكبرى نمط تعاطيها وحساباتها تجاه الأزمات الإقليمية‮. ‬فقبل أشهر قليلة،‮ ‬أعلنت الولايات المتحدة،‮ ‬وبريطانيا وفرنسا‮ -‬وهي كبري الدول الغربية المنخرطة في الأزمة‮- ‬أن تسليح المعارضة السورية أمر تقابله عقبات ومحاذير، وأن الحل السياسي هو الأمثل وهو المتاح أيضا‮. ‬وبالفعل،‮ ‬فإن تحركات دبلوماسية نشطة تمت في اتجاه تأمين حل سياسي توافقي بين المعارضة السورية،‮ ‬بضمانة أمريكية‮ - ‬روسية،‮ ‬علي أرضية تفاهمات جنيف التي تمت في نهاية يونيو‮ ‬‭.‬2012‮ ‬
       إلا أن انقلابا مفاجئا في المواقف وقع بالتزامن من جانب المعارضة السورية،‮ ‬وكل من بريطانيا وفرنسا، ثم بدرجة أقل من جانب الولايات المتحدة‮. ‬ففي توقيت واحد،‮ ‬أعلنت المعارضة السورية تشكيل حكومة مؤقتة،‮ ‬وهو ما يعني القضاء علي صيغة جنيف،‮ ‬ورفض أي حل سياسي يتضمن وجود أو استمرار النظام السوري الحالي،‮ ‬الأمر الذي يعني مباشرة اختيار استمرار المواجهة المسلحة منهجا لإدارة الصراع، إذ لم يكن من المتصور بحال إمكانية التوصل مع النظام السوري إلى أي حل سياسي لا يكون طرفا فيه،‮ ‬وبعد أن تم نزع الشرعية عنه‮. ‬
       وعمق من حدة هذا الوضع الجديد قرار الجامعة العربية شغل مقعد سوريا بواسطة الائتلاف الوطني السوري المعارض، ثم السماح بتسليح قوات المعارضة بواسطة من ترغب من الدول العربية‮. ‬وبالتوازي مع هذا التطور علي جانب المعارضة السورية والجامعة العربية، كانت بريطانيا وفرنسا تعلنان أنهما بصدد تسليح المعارضة، ثم لحقت بهما الولايات المتحدة أيضا‮.‬
       يكشف ذلك التحول المفاجئ المتزامن عن أن التدخل العسكري الخارجي،‮ ‬وإن لم يكن مباشرا،‮ ‬ولا بواسطة القوى الكبرى ذاتها،‮ ‬كما حدث في الحالة الليبية، فإنه دخل مجددا في دائرة حسابات بل وقرارات الدول الغربية،‮ ‬وإن كان من خلال أداة طرف تنفيذي آخر،‮ ‬هو القوات والجماعات المسلحة التي تقاتل ضد النظام السوري‮. ‬ومعروف أن الدعم العسكري الغربي أو العربي لتلك القوات يصعب أن يقتصر على تقديم السلاح فقط‮. ‬يتطلب هذا بذاته عمليات تدريب على كيفية استخدامه وصيانته، بالإضافة إلى بعض الجوانب اللوجيستية المتعلقة بالتوريد،‮ ‬والتسليم،‮ ‬والتخزين،‮ ‬والاستعواض، وأخيرا التنسيق العملياتي بين المجموعات القتالية التي ستمتلك أنواعا متباينة من الأسلحة،‮ ‬لكل منها قدرة تدميرية،‮ ‬ومدى مؤثر،‮ ‬وحالات استخدام معينة،‮ ‬وغير ذلك من أمور ستتطلب بالضرورة الاستعانة المباشرة بخبراء وفنيين أجانب،‮ ‬ليس فقط لتقديم استشارات،‮ ‬أو الإشراف،‮ ‬بل ربما أيضا للاضطلاع بشكل مباشر باستخدام لبعض أنواع الأسلحة المتقدمة‮.‬
       المنطقة والعالم، إذن، أمام صيف ساخن محمل بغبار الحروب والمواجهات المسلحة إقليميا وداخليا‮. ‬وبعد أن أوحت بعض حالات التدخل العسكري السابقة‮ (‬خصوصا في أفغانستان،‮ ‬ثم العراق،‮ ‬وأخيرا ليبيا‮) ‬بأن القوى الغربية قد استوعبت الدرس،‮ ‬وأن نتائج ومجريات تلك العمليات العسكرية تكفل عدم تكرارها في المدي المنظور، سرعان ما عادت لغة القوة لتظهر مجددا،‮ ‬وتفرض نفسها على لغة وأدوات التعامل مع الأحداث والقضايا الراهنة‮.‬ والأكثر مدعاة للتساؤل أن معطيات المشكلات التي يجري التعامل معها عسكريا لم تكن تستحق الانتقال إلى نمط القوة المسلحة للتعامل معها، على الأقل في اللحظة الراهنة، بدليل أنه قبل أسابيع،‮ ‬بل أيام فقط من تلك النقلة، كانت الأداة الدبلوماسية هي المستخدمة،‮ ‬والحلول السياسية هي المطروحة والمتداولة وحدها‮. ‬ولم يطرأ جديد مفاجئ يبرر التخلي عن الدبلوماسية،‮ ‬أو وقف جهود الحل السياسي، لا في سوريا،‮ ‬ولا في مالي،‮ ‬أو إفريقيا الوسطي‮.‬
لكن ما لا يستدعي التساؤل،‮ ‬وإنما يبدو مرجحا في ظل تلك الأوضاع الجديدة، أن اللجوء إلى القوة المسلحة لن يحل المشكلات أو المواقف التي استجدت، حتي وإن نجحت القوة المسلحة في تغيير الوضع الراهن في المدى القصير‮. ‬إذ تظل الحلول النهائية أو حتي التسويات المرحلية مرتبطة برؤي سياسية تراعي معطيات وجوهر المشكلات،‮ ‬وهو ما تفتقده الإجراءات العسكرية،‮ ‬أيا كانت درجتها،‮ ‬أو مدى تورط أطراف خارجية فيها بشكل مباشر أو‮ ‬غير مباشر‮. ‬بل إن العمل العسكري،‮ ‬حتي وإن كان يهدف إلى تحريك وضع قائم،‮ ‬أو تغيير حسابات الأطراف،‮ ‬وإيجاد بيئة مناسبة لتسوية ما، فدائما ما يكون لاستخدام القوة بذاته تداعيات سلبية،‮ ‬من شأنها تعقيد الموقف،‮ ‬وتأزيمه، ومن ثم تعطيل الحلول السياسية زمنيا،‮ ‬وموضوعيا أيضا‮.‬


Previous Post Next Post