عبر عقود والملكية الهاشمية في الأردن تسعى إلى ترسيخ دعائم سلطتها،
والحفاظ على استقرار دولة لطالما كان موقعها يحتم على النظام الحاكم
التعامل بدرجة كبيرة من الحساسية مع المعطيات الداخلية التي كثيراً ما كانت
تتداخل مع عوامل خارجية، أهمها القضية الفلسطينية بصورة تؤدي إلى تعقيدات
وتشابك للمشهد السياسي. ومع موجة ثورات الربيع العربي التي اجتاحت دولا
مركزية بالمنطقة، أصبح السياق الأردني أكثر تعقيداً، فهناك أزمات فعلية
يعانيها المجتمع، أهمها الأوضاع الاقتصادية المتأزمة التي دفعت الأردنيين
إلى المزيد من التظاهرات والتصادم مع السلطة الحاكمة. وهكذا، أصبح التساؤل
الرئيسي المطروح يتمحور حول احتمالية تكرار سيناريو الربيع العربي في
المملكة الأردنية.
وفي هذا الصدد تأتي، أهمية الدراسة المنشورة من جانب مركز كراون لدراسات
الشرق الأوسط، والمعنونة "هل النظام الملكي الأردني في خطرIs the Jordanian
Monarchy in Danger?" " للباحث بمركز موشيه ديان للدراسات الإفريقية
والشرق أوسطية بجامعة تل أبيب آشر سوسر Asher Susser. وتتناول الدراسة
احتمالية انتقال سيناريو الربيع العربي للمملكة الأردنية من خلال التعرض
لأبرز التحديات التي يواجهها النظام الملكي الحاكم في مرحلة ما بعد الربيع
العربي، وكيفية تأثير تلك التحديات فى شرعية النظام.
إسقاط النظام أم إصلاحه؟
لم تعد السياقات المجتمعية التي يتعامل معها النظام الحاكم في الأردن كما
كانت، فالنظام الحاكم يواجه تحديات في الفترة الراهنة يمكن اعتبارها من
أصعب التحديات التي يواجهها الملك عبد الله الثاني منذ توليه السلطة بعد
وفاة الملك حسين عام 1999.ويشير آشر سوسر إلى أن ثورات الربيع العربي كانت
لها تداعيات على الأنظمة الحاكمة بدول المنطقة (بما فيها المملكة
الأردنية)، فقد بدأت هيبة السلطة الحاكمة في التآكل. وبمرور الوقت، اكتسبت
قوى المعارضة زخماً متزايداً، وأصبحت لديها قدرة أكبر على الحشد الجماهيري
واستخدامه كآلية للضغط على الأنظمة الحاكمة.
فعلى مدى العامين الماضيين، والأردن يشهد حراكا شعبيا وتظاهرات مناهضة
للنظام الحاكم تقودها قوى من المعارضة التي تتشكل من تيارات متباينة، سواء
من جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها، وظلت تلك التظاهرات ترفع مطالب رئيسية
تمثلت في الإصلاح السياسي (وليس إسقاط النظام كما في حالات الربيع
العربي)، والقضاء على الفساد المستشري بالبلاد الذي تراه المعارضة سبب تآكل
موارد الدولة، وتراجع مستويات المعيشة.
وتعد الأزمات الاقتصادية إحدى الإشكاليات الجوهرية التي تواجه النظام
الحاكم بالأردن، وقد ظهرت تلك الأزمات منذ أواخر عقد الثمانينيات من القرن
المنصرم. ومنذ ذلك الحين، لم يستعد الاقتصاد الأردنى عافيته، خاصة مع
معدلات الزيادة السكانية المتسارعة، وارتفاع أسعار السلع والوقود. ومع
تداخل صندوق النقد الدولى على خط الأزمة وتوصياته للحكومات المتعاقبة
بتخفيض الدعم، أصبحت الأوضاع أكثر تعقيداً.
وعقب ثورات الربيع العربي، أصبحت الحركات الاحتجاجية بالأردن أكثر وضوحاً
لتصل إلى ذروتها مع تظاهرات نوفمبر 2012 التي اندلعت على خلفية القرارات
الحكومية برفع الدعم عن المشتقات النفطية، وهو ما ترتب عليه ارتفاع حاد في
أسعار الجازولين، ووقود الديزل، والكيروسين، وزيت الطعام. وفيما كان منحى
التظاهرات يتصاعد، وتتزايد الصدامات بين المتظاهرين والأمن، كانت الحكومة
تبرر تلك القرارات بأنها ضرورية، حتى تتمكن الدولة من القيام بمهامها،
وتستمر في الوفاء بالتزاماتها.
وتضيف الدراسة أن الازمات لم تقتصر على الجانب الاقتصادي، إذ إن صرح
الموالاة للنظام الحاكم لم يعد على القدر نفسه من التماسك، ولكن بدت عليه
ملامح التصدع خلال السنوات الماضية. فقد كان هناك ثمة عقد اجتماعي غير
مكتوب بين النظام الملكي ومواطني الضفة الشرقية. وبموجبه، يحصل النظام
الملكي على الولاء الكامل. وفي المقابل، يتم منح الأردنيين بالضفة الشرقية
امتيازات عدة، من ضمنها الوظائف الحكومية.ولكن مع تلبية النظام الحاكم
لتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين، والتوسع في عمليات الخصخصة، بدأ
العديد من مواطني الضفة الشرقية يفقدون وظائفهم.
إصلاحات محدودة:
إصلاحات محدودة:
سعت المعارضة الأردنية إلى الضغط على النظام الحاكم لإحداث إصلاحات فعلية
يمكن عبرها الوصول إلى ملكية دستورية، بحيث يتم تحويل مركز السلطة من القصر
إلى برلمان نيابي منتخب بالكامل. وفي هذا السياق المتداخل معه تداعيات
ثورات الربيع العربي، شرع الملك عبد الله الثاني في تبني عدد من الخطوات
الإصلاحية.
وبحسب الدراسة، فقد تركزت تلك الإصلاحات في إجراء 42 تعديلا بمواد
الدستور، والتزام الملك بتعيين رئيس الوزراء من خلال المشاورات مع البرلمان
المنتخب، وامتدت تلك الإصلاحات لتشمل إقرار قانون انتخابات جديد، تم
بموجبه زيادة عدد المقاعد بالبرلمان من 120 مقعدا إلى 150 مقعدا لترتفع
معها كوتة المرأة من 12 إلى 15 مقعدا، كما تمت زيادة عدد المقاعد التي يتم
انتخابها عبر نظام القوائم الحزبية لتصبح 27 مقعدا، فيما يتم انتخاب
المقاعد الباقية بالنظام التقليدي "فرد واحد، صوت واحد"، حيث يفوز المرشح
الحاصل على أكبر الأصوات.
ولم تحظ تلك الإصلاحات بقبول من جانب قوى المعارضة، التي رأتها مجرد
إصلاحات محدودة لم تتطرق للقضايا الجوهرية التي لطالما طالبت بها المعارضة،
بحسبانها آلية التحول تجاه الملكية الدستورية. فالمعارضة تطمح لأن يتم
انتخاب رئيس الحكومة من مجلس النواب المنتخب، وليس بأمر ملكي. يضاف إلى ذلك
المطالبة بالانتخاب المباشر للغرفة الأعلى بالبرلمان "مجلس الشيوخ"، بدلاً
من النظام الراهن القائم على تعيين أعضاء المجلس من جانب الملك.
ويذكر سوسر أن أكبر الانتقادات التي وُجهت لتلك الإصلاحات كانت قادمة من
التيار الإسلامي، فقد طالبت جماعة الإخوان المسلمين بإحداث تعديلات جوهرية
في النظام الانتخابي، وإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية، لاسيما أن النظام
الانتخابي القائم علي فكرة "فرد واحد، صوت واحد" ينطوي على إشكاليات
للتيار، حيث يعده الإسلاميون مصمما خصيصا للنيل من فرصهم في الفوز
بالانتخابات. كما أن هذا النظام يجعل من الانتماءات القبلية عنصر الترجيح
في الفوز بالانتخابات. وعطفاً على هذا، فإن تعديل النظام الانتخابي،
والتوسع في نظام القوائم الحزبية يمكن أن يعززا من فرص الإسلاميين في
الانتخابات.
وبين هذا وذاك، أمست العلاقة بين النظام الحاكم والمعارضة تتسم بالشد
والجذب. فالمعارضة من جانبها تضغط من أجل إصلاحات بوتيرة متسارعة يمكن أن
تساعدها في تدعيم ركائزها المجتمعية، بينما ينظر النظام الحاكم إلى مطالبات
المعارضة بقدر كبير من التوجس وعدم الارتياح، ويدرك أن الإصلاحات التي
تنادى بها المعارضة يمكن أن تقوض في نهاية المطاف من سلطة الملك. وعوضاً عن
هذا، يطرح الملك عبد الله الثاني نموذجا يجمع بين الإصلاح التدريجي،
والإبقاء علي السلطة الملكية التي ستظل تمثل رمزاً لوحدة الدولة والمؤسسة
المنوط بها التأكد من حيادية أجهزة الدولة الرئيسية مثل الجيش والشرطة.
مستقبل النظام الملكي:
يخلص سوسر إلى أن النظام الأردنى لا يزال يحظى بوضعية تتيح له الاستمرارية
في السلطة بالصورة التي تستبعد احتمالية تكرار سيناريو دول الربيع العربي.
وبالرغم من التحديات التي يواجهها النظام في الفترة الراهنة، فالأمور لا
تزال خاضعة لسيطرة النظام.في هذا السياق، تختزل الدراسة الأبعاد الداعمة
لبقاء النظام، وعدم إسقاطه في ثلاثة أبعاد رئيسية:
أولاً: الشرعية التاريخية التي يحظى بها النظام المالكي الهاشمي بالأردن، إذ إن طبيعة وتركيبة الدولة الأردنية تعززان من ديمومة وعمق مبادئ الملكية، وتوارث الحكم بين أفراد الأسرة الهاشمية التي تعد المؤسس الأول للدولة. وخلال السنوات التي أعقبت تأسيس المملكة الأردنية، كانت النظم الملكية الحاكمة تدعم شرعيتها عبر تقديم الوعود للأردنيين بتأمين حياة أفضل ومستقرة لجميع مواطني الدولة، ناهيك عن إضفاء الجانب الديني على شرعية الأسرة الهاشمية الحاكمة، حيث ينتسب الهاشميون للنسل النبوي.
أولاً: الشرعية التاريخية التي يحظى بها النظام المالكي الهاشمي بالأردن، إذ إن طبيعة وتركيبة الدولة الأردنية تعززان من ديمومة وعمق مبادئ الملكية، وتوارث الحكم بين أفراد الأسرة الهاشمية التي تعد المؤسس الأول للدولة. وخلال السنوات التي أعقبت تأسيس المملكة الأردنية، كانت النظم الملكية الحاكمة تدعم شرعيتها عبر تقديم الوعود للأردنيين بتأمين حياة أفضل ومستقرة لجميع مواطني الدولة، ناهيك عن إضفاء الجانب الديني على شرعية الأسرة الهاشمية الحاكمة، حيث ينتسب الهاشميون للنسل النبوي.
وتذكر الدراسة أن التصدع الحادث في صرح الموالاة للملك عبد الله، وخصوصاً
بين الموجودين في الضفة الشرقية لا يعني انتهاء ولاء النخب التقليدية
بالضفة للنظام الملكي، فتلك النخب لا تزال تؤكد ولاءها للنظام الملكي، حيث
تعد الملكية الهاشمية رمزاً لوحدة الدولة، فهي تمتلك الشرعية الفعلية.
ثانياً: تماسك مؤسسات الدولة واستمرارية ولائها للنظام الملكي، ولاسيما
المؤسسات الأمنية، وذلك بالتزامن مع تضاؤل قدرات المعارضة والانقسامات
الواضحة في صفوفها، فضلاً عن عدم قدرتها على تقديم البديل الذي يمكن
الاستناد إليه.
وتضيف الدراسة أن الجغرافيا السياسية للمملكة الأردنية أفضت إلى تداخل
الخارج في المعادلة السياسية الداخلية، فهناك العديد من دول المنطقة (منها
النظم الملكية بالخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة السعودية) تعول كثيراً
على بقاء النظام الحاكم. إذ إن عدم استقرار الجبهة الأدرنية الداخلية يمكن
أن تكون له انعكاسات سلبية على دول المنطقة، وبالتالي فهذه الدول على
استعداد لتقديم الدعم للنظام الحاكم عند الاحتياج.
ثالثاً: تعثر مسار الثورات العربية والاستمرار في معضلة المرحلة
الانتقالية، وعدم حسم الثورة السورية التي تحولت إلي ما يشبه الحرب
الأهلية، تشكل عوامل دافعة نحو بقاء النظام الحاكم في الأردن. فثورات
الربيع العربي ليست قادرة حتى الوقت الراهن على تطوير نموذج لدولة يمكن أن
يلهم شعوب المنطقة، ومنها الشعب الأردنى.
من هذا المنطلق، أصبح النظام الأردني يستغل الواقع المأزوم لدول الربيع
العربي في تبرير شرعيته، فهو على أقل تقدير يستطيع أن يحافظ على الاستقرار
والتماسك الداخلي الذي تفتقده دول الربيع العربي بصورة أو بأخرى. وفي هذا
الإطار، أصبحت مقولات "الاستقرار" من المقولات الحاضرة بشكل شبه دائم فى
خطاب النظام الحاكم.
عرض: محمد بسيونى عبد الحليم ، باحث فى العلوم السياسية
التسميات :
تحليلات سياسية