يستعرض كتاب" الانتفاضة العربية : الثورات غير المنتهية في الشرق الأوسط"
الجديد للكاتب مارك لينيش عددا من التغيرات الجذرية التي حدثت في الشرق
الأوسط، علي خلفية ثورات الربيع العربي، وفرضت تغييرات مناظرة علي كثير
من الافتراضات والمسلمات التي تتعلق بالمنطقة. ويؤكد الكاتب مقولة
أساسية، مفادها أن "هذه الثورات ما هي إلا تجليات أولية لتحولات أعمق
في الأنظمة والواقع العربي". ولذا، يلقي الكتاب الضوء على دينامية ما
حدث ودلالاته ومآلاته المستقبلية.
يبدأ الفصل الأول باستعراض "الثورات العربية" التي اتسمت بالسرعة
والعفوية. وقد اكتسبت تلك الثورات زخما وقوة دفع بفعل عاملين، أولهما:
التغير الجيلي الذي لا يمكن اختزاله في فارق العمر الزمني، وإنما
يتجاوزه إلى الأفكار والأدوات. ثانيهما: تغير طبوغرافية المجال العام
في الوطن العربي، نتيجة للانفتاح الإعلامي غير المسبوق في هذه البلاد،
وتدفق المعلومات بما قوض من سيطرة الأنظمة العربية على المجال العام،
وفتح الباب أمام مجال عام جديد.
وعلى الرغم من إشارته للاختلاف الجيلي، كأحد العوامل الأساسية وراء
اندلاع الثورات، فإن المؤلف رفض صراحة اتجاه بعد الكتابات لقولبة وتبسيط
الثورات العربية في صور نمطية تتأرجح ما بين التحذير من الصعود الإسلامي
الوشيك، أو التهليل للشباب الليبرالي الذي يقطن الميادين، لأن مثل هذه
التحليلات تغض الطرف عن الاختلافات البينية في الدول العربية على مستوي
الثقافة والتاريخ والإثنيات.
وفي الفصل الثاني المعنون بـ "الحرب الباردة العربية"، يحدد الكاتب
ثلاثة أبعاد لحل شفرة الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط، وهي:
1) قدرة الدول على الاصطفاف إلى جانب الرأي العام العربي بمصداقية تجعل
لها قبولا في الشارع، ويطلق عليها اسم "الدول المتحولة"، والتي
تتمتع بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة والقوي الأجنبية المرفوضة في
الشارع. وفي الوقت ذاته، عشية الثورات العربية، بدأت تتخذ مواقف أكثر
استقلالية في سياستها الخارجية دون أن يؤثر ذلك في علاقاتها مع القوي
العظمي في العالم، وعلى رأس هذه الدول قطر وتركيا.
2) وحدة المجال السياسي العربي تجعل هناك قضايا مشتركة في المنطقة، وهو
ما يعمل في اتجاهين مختلفين، حيث يقلل من إمكانية مراوغة الحكام العرب
لشعوبهم من ناحية، ويعزز التحرك باتجاه الإقليمية في الشرق الأوسط.
3) قدرة الدول على التدخل في شئون الدول المنافسة، أو منع تدخلها في
شئون الدولة الواحدة سوف تحدد ما إذا كانت الدولة لاعبا رئيسيا في الساحة
الإقليمية، أم أنها بحد ذاتها ساحة يستعرض اللاعبون الآخرون قوتهم في
مواجهة بعضهم بعضا من خلالها.
بدايات واحدة وسيناريوهات مختلفة:
أما الفصلان الثالث والرابع، فجاءا يرصدان اللحظات السابقة على الثورة
تحت عنوان "البناء للثورة"، و"أمل جديد" على وجه الترتيب. ويحاول
المؤلف خلال هذا الفصل استعراض لحظات التعبئة الشعبية في الدول العربية.
ويستخلص من هذا الاستعراض أربع نقاط.
أولا: إن ما يحدث ليس أمرا مستحدثا يستدعي الدهشة أو الاستغراب، فقد
عج التاريخ العربي بكثير من التعبئة الاجتماعية ضد النظامين الداخلي
والإقليمي، وبذلك تكون الصورة النمطية عن سلبية الشارع العربي هي صورة
مغلوطة.
ثانيا: تفرد المنطقة العربية عن غيرها من المناطق في العالم بوحدة المجال العام.
ثالثا: إن التنافس بين الدول العربية على ريادة النظام العربي هو أحد
الأسس الرئيسية لأي صراع سياسي داخل الدول العربية فرادي أو بينها.
رابعا: إن موجات التعبئة الاجتماعية عادة ما انتهت بتكريس نظم أكثر
تسلطا عن سابقتها، ولم تفض إلى الديمقراطية التي بدأت باسمها.
وبدءا من الفصل الخامس، يتتبع المؤلف مسار الأحداث في المرحلة الثانية
من الثورات العربية ليرصد في الفصل الخامس المعنون بـ "موجة المد"
الزخم الشعبي الذي اجتاح المنطقة، ولحظات الحماس الجماهيري للخروج
للميادين المختلفة، على اعتبار أن هذه اللحظات شكلت الملامح الأساسية
المشتركة بين الثورات في الدول العربية.
علاوة على ذلك، فإن هذه الثورات انتقلت من مرحلة الزخم الشعبي المتبلور
إلى مرحلة التفتت والتشتت بين قوة الحراك الشعبي على الأرض والتحركات
النخبوية. لقد اتفقت الثورات العربية في بداياتها ولكن اختلفت مساراتها،
ومن ثم مآلاتها، التي ينظر إليها على أنها أحد أشكال مسلسل الثورة
المضادة التي اختلفت حلقاتها ومجرياتها من دولة لأخري، وهو ما يعرض له
المؤلف بالتفصيل في الفصل السادس تحت عنوان "الإمبراطورية تتراجع:
الثورة المضادة".
ويشير المؤلف إلى أن مصطلح الثورة المضادة غير واضح المعالم، من حيث
النطاق والفاعلون، خاصة أن درجة التكامل بين القائمين على هذه الثورة
المضادة هي التي تحدد مدي نجاحها.
سياسة أمريكية جديدة:
وبشكل متكامل، يعرج المؤلف من سؤاله الواسع حول دور الفاعلين الخارجيين
في الثورات العربية، أو البعد الدولي في الثورات العربية، إنجاحا
وإفشالا، إلى سؤال أكثر تحديدا عن دور الولايات المتحدة الأمريكية في
المرحلة التالية، مستعرضا الفرص والتحديات التي يمكن أن تواجهها في تطبيق
سياساتها في المنطقة. وينطلق هذا الفصل من افتراض، مفاده أن "متي
استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل باعتبارها قوة تحافظ على
استقرار النظام الدولي فحسب، وفي عقد صفقات بحسب كل حالة على حدة، فإن
سياساتها سوف تبوء بفشل ذريع لا محالة".
لقد جعل المؤلف من أخطاء إدارة جورج بوش في إبقاء الرأي العام العربي خارج
معادلات سياسته الخارجية منطلقا لتوصياته لإدارة الرئيس باراك أوباما،
التي وصفها بالبراجماتية، والتي حدد ملامح إطارها العام في أن تتعامل
الولايات المتحدة الأمريكية مع الثورات العربية باعتبارها قضية وجودية
بالنسبة لسياستها الخارجية، وأن على الدبلوماسية الشعبية التواصل مع
الشعوب العربية، وألا تغض الطرف عن حقيقة كون الملف الفلسطيني الإسرائيلي
مرتبطا بالتطورات الإقليمية في المنطقة، وأن أي انتصار تحققه الولايات
المتحدة الأمريكية في هذا الملف يعني انتصارها في أعين الشعوب العربية
قاطبة. وعليه، فيجب أن تعيد الولايات المتحدة الأمريكية صياغة علاقتها
مع إسرئيل بشكل عملي.
ويضيف، في إطار تقديم النصح للإدارة الأمريكية، أن تولي السياسة
الخارجية الأمريكية اهتماما أصيلا بالصعود الجيلي في هذه المنطقة، وبأن
يحتل الشباب العربي مركزا رئيسيا في خطابها وبرامجها التنموية في هذه
المناطق، وأن تهتم بالتحديات التي يفرضها ظهور وصعود القوي الإسلامية
في البلاد العربية، وأن التحديات سوف تظهر من الداخل الأمريكي الرافض
للإسلام، لأنه ارتبط بالإرهاب. وهنا، قد يلعب الإعلام الداخلي دورا
مهما في تقبل المواطن الأمريكي للتغير، أو للحوار الأمريكي مع القوي
الإسلامية الصاعدة في الوطن العربي.
الكاتب :مارك لينيش
التسميات :
تحليلات سياسية