رؤية أمريكية للصراع بين موسكو وواشنطن في سوريا | المكتبة الدبلوماسية

رؤية أمريكية للصراع بين موسكو وواشنطن في سوريا

       رغم أن حدة الصراع بين موسكو وواشنطن في سوريا تراجعت بعد توصلهما إلى اتفاق لإزالة وتدمير الأسلحة الكيميائية السورية بحلول منتصف 2014 ، مما أدى إلى إبعاد شبح التهديدات الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية أمريكية ضد نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، فإن الأزمة كشفت عن صراع ممتد بين روسيا والولايات المتحدة في مناطق عديدة في العالم. وفي هذا السياق، تبدو أهمية الرؤية الأمريكية التي طرحها الخبير الأمريكي الشهير، جورج فريدمان، في مقال تحليلي له بموقع ستراتفور لفهم الصراع الدولي بين أمريكا وروسيا، والذي يحلل فيه استراتيجية بوتين لمواجهة واشنطن.

تدهور علاقات موسكو وواشنطن:
       مع تركيز الصين على قضاياها المحلية، وأوروبا على مشكلاتها، فإن الولايات المتحدة وروسيا هما اللاعبان الدوليان الرئيسيان، وإن كان هناك فرق في التشبيه، وتدهور كبير في العلاقات، بحسب تحليل فريدمان. ولذا، يتعين أن نفهم تلك النقطة قبل الانتقال بتفكيرنا إلى المشهد السوري.
لم يكن للولايات المتحدة اهتمام كثير بعقد علاقات مع روسيا قبل عشرين عامًا، وبالتأكيد لا حاجة لإعادة تشغيلها. وانهار الاتحاد السوفيتي، وتمزق الاتحاد الروسي، ولم تأخذ الولايات المتحدة ذلك التفكك على محمل الجد. هذه الذكرى تحمل مرارة لدى الروس. ومن وجهة نظرهم، تحت ستار تعليم الروس كيفية إنشاء ديمقراطية دستورية، وتعزيز حقوق الإنسان، شاركت الولايات المتحدة وأوروبا في الممارسات التجارية الاستغلالية، ودعمتا المنظمات غير الحكومية التي أرادت زعزعة استقرار روسيا.
       جاءت لحظة الانهيار أثناء أزمة كوسوفو.  كان سلوبودان ميلوسيفيتش، زعيم ما تبقى من يوغوسلافيا، حليفًا للروس. وكانت لدى روسيا علاقة تاريخية مع صربيا، ولم تكن تريد أن ترى صربيا ممزقة الأوصال بمنح كوسوفو استقلالها.
ورأى فريدمان أن هناك ثلاثة أسباب لذلك. أولا: نفى الروس أن هناك مذبحة للألبان في كوسوفو. ثانيًا: لم يكن الروس يريدون حدوث أي تغيير في الحدود الأوروبية. كان هناك اتفاق عام على ضرورة عدم إحداث أي تغييرات قسرية في الحدود داخل أوروبا، بالنظر إلى تاريخها. وكان الروس قلقين من إمكانية استخدام المناطق المضطربة في الاتحاد الروسي -من الشيشان إلى كاريليا، إلى روسيا المحيط الهادى- لتقطيع أوصال روسيا كالفصل القسري لصربيا وكوسوفو. وفي الواقع، كانوا يفسرون موضوع كوسوفو على هذا النحو في ريبة. ثالثًا، وهو الأهم، أنهم شعروا، أي الروس، بأنه لا ينبغي شن أي هجوم دون موافقة الأمم المتحدة، ودون الدعم الروسي على حد سواء، بموجب القانون الدولي، واحترامًا لموسكو.
       وبالرغم من ذلك، انطلق الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، ومعه بعض دول حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" وشنوا الحرب. وبعد شهرين من الغارات الجوية التي حققت القليل، تحدثوا مع الروس للمساعدة في تسوية النزاع. وصل المبعوث الروسي إلى اتفاق يقر بالانفصال الرسمي لكوسوفو عن صربيا، ولكن بنشر قوات حفظ سلام روسية، جنبًا إلى جنب مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ومهمتها هي حماية الصرب في كوسوفو. ودُعي المتصارعون إلى وقف إطلاق النار، ولكن لم يُنفَّذ الجزء المتعلق بنشر قوات حفظ سلام روسية بالكامل أبدًا.
       وكما يقول فريدمان، شعرت روسيا بأنها تستحق مزيد احترام في مسألة كوسوفو، ولكن لم يمكن لها أن تتوقع أكثر من ذلك، في ضوء موقعها الجيوسياسي الضعيف في ذلك الوقت. ومع ذلك، عمل هذا الحدث كمحفز للقيادة الروسية في محاولة لوقف تدهور مكانة البلاد، واستعادة احترامها. كانت كوسوفو واحدا من العديد من الأسباب التي حولت فلاديمير بوتين إلى رئيس، ومعه عادت القوة الروسية الكاملة لجهاز المخابرات.

التعدي الغربي على روسيا:
       لفت فريدمان إلى أن الولايات المتحدة دعمت انتشار جماعات حقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي السابق بالوسائل المادية وغيرها. وعندما شهدت العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق ثورات في التسعينيات من القرن العشرين، والتي أدت إلى حكومات ديمقراطية نوعًا ما، ولكنها أكثر موالاة للغرب، ولأمريكا بالتأكيد، رأت روسيا أن الغرب يقترب منها ويحاصرها. وكانت أوكرانيا هي نقطة التحول، حيث أحدثت الثورة البرتقالية ما بدا لبوتين حكومة موالية للغرب في عام 2004، وكانت أوكرانيا الدولة الوحيدة التي بانضمامها للناتو ستكشف آخر الخطوط الدفاعية لروسيا، وتسيطر على العديد من خطوط أنابيبها إلى أوروبا.
       كان بوتين يعتقد أن المنظمات غير الحكومية ساعدت في هندسة ما حدث، وادعى أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية موّلت هذه المنظمات. وبالنسبة لبوتين، دلت الأحداث في أوكرانيا على أن الولايات المتحدة على وجه الخصوص التزمت بتوسيع دائرة انهيار الاتحاد السوفيتي إلى انهيار الاتحاد الروسي، وكانت كوسوفو إهانة من وجهة نظره. وكانت الثورة البرتقالية هجومًا على المصالح الروسية الأساسية.
       بدأ بوتين عملية قمع كل المعارضة في روسيا، سواء من المنظمات غير الحكومية المدعومة من الأجانب، أو المجموعات المحلية البحتة، حيث رأى بوتين أن روسيا تتعرض للهجوم، ورأى هذه الجماعات منظمات تخريبية. وهذه النقطة تحتاج إلى تفصيل خاص، لكن الحقيقة هي أن روسيا كانت عائدة إلى جذورها التاريخية، بحسبانها حكومة استبدادية، مع سيطرة الدولة على الاقتصاد، وتوجيهه، وتم التعامل مع المعارضة كما لو كانت تهدف لتدمير الدولة. وعلى الرغم من احتمال تفهم الكثير من هذه الإجراءات ، بحسبانها رد فعل لنوبات الفشل والكوارث التي تعرضت لها دولته منذ عام 1991، فقد خلقت صراعًا مع الولايات المتحدة، واحتفظت الولايات المتحدة بضغطها على قضية حقوق الإنسان، وكان رد الروس هو مزيدا من القمع.
       ثم جاء الفصل الثاني من مسألة كوسوفو. ففي عام 2008، قرر الأوروبيون منح كوسوفو استقلالها التام، وطلب الروس عدم تنفيذ ذلك، وقالوا إن التغيير ليس له معنى عملي على أي حال، ورأوا أنه لم يكن هناك أي سبب للتنغيص على روسيا بمثل هذا الإجراء، لكن لم يبال الأوروبيون بشكوى الروس.
       ووجد الروس الفرصة للرد على هذا الازدراء في وقت لاحق من ذلك العام في جورجيا. فكيف بدأت الحرب الروسية- الجورجية؟ هذا بالضبط يمثل قصة أخرى، وفق فريدمان، لكنها أدت إلى دخول الدبابات الروسية دولة تابعة للولايات المتحدة وهزيمة جيشها، والبقاء هناك، حتى يكونوا على استعداد لتركها. ومع تورط الأمريكيين في العراق وأفغانستان، كان تدخلهم مستبعدًا.
      واستغل الروس هذه الفرصة لإرسال رسالتين إلى كييف ودول الاتحاد السوفيتي السابق الأخرى، بأنه، أولا: يمكن لروسيا أن تستخدم القوة العسكرية، عندما تشاء. ثانيًا: دعوة أوكرانيا وغيرها من البلدان للنظر فيما تعنيه الضمانة الأمريكية. ولم تتعافَ العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا قط، ورأت أمريكا أن الحرب الروسية على جورجيا تمثل عدوانًا سافرًا، غير أن روسيا رأتها ببساطة نسخة روسية من كوسوفو، وفي الواقع نسخة ألطف، حيث تركوا جورجيا سليمة. وأصبحت الولايات المتحدة أكثر حذرًا في تمويل المنظمات غير الحكومية، وأصبح الروس أكثر قمعًا لجماعات المعارضة في العام نفسه.
       وحاول بوتين منذ عام 2008 خلق شعور بأن روسيا قد عادت إلى قوتها التاريخية السابقة، وقدرتها على أن تحافظ على إقامة علاقات عالمية مع قوى يسارية مثل فنزويلا، والإكوادور، وبوليفيا، وكوبا. وبالطبع، ليست روسيا بالدولة اليسارية من الناحية الفنية. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنها يسارية غريبة، نظرًا للعديد من الأوليجاركيين الذين يعيشون حياة رغدة. وفي واقع الأمر، لا يمكن لروسيا أن تسدي وعودًا لأي من تلك البلدان تتجاوز استثمارات واعدة في مجال الطاقة، ونقل الأسلحة، وهي وعود قلما تتحقق. ومع ذلك، فهذا يعطي لروسيا إحساسًا بأنها قوة عالمية.
       وفي الواقع، لا تزال روسيا ظلالا لما كان عليه الاتحاد السوفيتي، على حد وصف فريدمان. ويتركز اقتصادها بشكل كبير على صادرات الطاقة، وتعتمد على أسعار عالية لا يمكنها السيطرة عليها. فخارج موسكو وسانت بطرسبورج، تبقى الحياة صعبة، ومتوسط العمر المتوقع قصير. ولا يمكن مقارنتها عسكريًّا بالولايات المتحدة. ولكن في هذه اللحظة من التاريخ، مع انسحاب الولايات المتحدة من المشاركة العميقة في العالم الإسلامي، ومع معاناة الأوروبيين من الفوضى المؤسساتية، فإنها تمارس مستوى من القوة يفوق قدرتها الحقيقية، بحسب التحليل. ويحيك الروس خدعتهم الخاصة، وتساعدهم تلك الخدعة محليًّا عن طريق خلق شعور بعودة روسيا العظيمة، بالرغم من المشاكل التي تعانيها، على حد قول فريدمان.
       وأوضح فريدمان أن التفوق على الولايات المتحدة في هذه اللعبة أمر بالغ الخطورة، بغض النظر عن أهميته. فقد كانت قضية "سنودن" (الذي فضح برنامج التجسس الاستخباراتي الأمريكي) مثالية بالنسبة للروس. وسواء تورطوا في قضية سنودن من البداية، أو دخلوا فيها في وقت لاحق، فهذا أمر غير مهم . فقد خلّفت القضية انطباعيْن هاميْن، الأول هو أن روسيا لا تزال قادرة على إصابة الولايات المتحدة، وهو الرأي السائد بين أولئك الذين يعتقدون أن الروس حركوا طبيعة العلاقة، وقد أيده بشكل هادئ وغير رسمي أولئك الذين رأوا ذلك انقلابًا مخابراتيًّا روسيًّا، على الرغم من أنهم أنكروا ذلك في علانية وقوة.
       وكان الانطباع الثاني هو أن الولايات المتحدة دولة نفاق . فكثيرًا ما اتهمت الروسَ بانتهاك حقوق الإنسان. ولكن مع سنودن، كان الروس في وضع يمكّنهم من حماية الرجل الذي كشف ما رآه كثيرون بمثابة انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. ورأى فريدمان أن هذا أذل الأمريكيين من الناحية الأمنية المتراخية لديهم، كما أضعف قدرة الولايات المتحدة على لوم روسيا على انتهاكات حقوق الإنسان.
       وكان أوباما غاضبًا من تدخل روسيا في قضية سنودن، وألغى اجتماع قمة مع بوتين. ولكن الآن، وضعت الولايات المتحدة في حسبانها توجيه ضربة للنظام السوري، بعد الاشتباه في استخدامه أسلحة كيميائية، وهو أمر قد يجعل واشنطن في وضع يمكّنها من هزيمة دولة تابعة لروسيا، وبالتبعية موسكو نفسها.

المسألة السورية:
       ترجع علاقات نظام الأسد بروسيا إلى عام 1970، عندما قام حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي بشار الأسد، بانقلاب، وجعل سوريا تنحاز إلى معسكر الاتحاد السوفيتي. في أوهام القوة العالمية التي يحتاج بوتين إلى خلقها، يرى فريدمان أن سقوط الأسد يقوض استراتيجيته بشكل كبير، إلا إذا وجّه الولايات المتحدة إلى صراع آخر لفترة طويلة مكلِّفة في الشرق الأوسط.
       في الماضي، ساعد انغماس الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان على خدمة مصالح روسيا، لكن ليس من المرجح أن تنغمس الولايات المتحدة بشكل عميق في سوريا، كما فعلت في تلك البلدان. فقد يقوم أوباما بإسقاط النظام، ويقوم بتشكيل حكومة سنية ذات معتقدات غير محددة، أو قد يختار شن هجوم مؤقت بصواريخ كروز. وهذا لن يتحول إلى سيناريو العراق، إلا إذا فقد أوباما السيطرة تمامًا، على حد قول فريدمان.
       ويرى التحليل أن تحولا في التاريخ لن يحدث، بناء على هذا الحدث، ولا يعتمد مستقبل بوتين -ناهيك عن روسيا- على قدرته على حماية الحليف السوري لروسيا، فسوريا ليست مهمة إلى هذه الدرجة. وهناك عدة أسباب تشير إلى أن الولايات المتحدة قد لا ترغب في الانخراط في سوريا. ومن هنا، بدت أكثر ميلا لتأجيل الضربة، بعد موافقة نظام الأسد، بدعم روسي، على إخضاع الأسلحة الكيماوية للرقابة الدولية . لكن إذا أردنا أن نفهم الأزمة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن سوريا، فمن المنطقي أن ننظر إلى الأزمة في سياق التاريخ الحديث، بدءًا من كوسوفو في عام 1999 ، إلى جورجيا في عام 2008 ، إلى ما نحن فيه اليوم.

طارق راشد عليان، باحث في العلوم السياسية.


أحدث أقدم