عانت المجتمعات البشرية منذ القدم من عدم
الاستقرار, واستطاعت بعض المجتمعات تطويع عوامله ومسبباته, والتي كانت نتاج خلافات
وصراعات. سواء كان مصدرها الاختلافات الدينية, أو العرقية,
أو الجهوية, أو الصراع من أجل السلطة فكانت ظاهرة الاستقرار نتاج تراكم حضاري من
خلال (تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية,
وثقافية) أفضت
إلى قولبة الإنسان فكرا, وسلوكا, وممارسة , ليتعايش المجتمع بسلام . فالمجتمعات التي استطاعت أن تحقق التقدم في جميع
المجالات الفكرية, والمادية هي تلك المجتمعات التي استطاعت أن تجتاز مرحلة الفوضى والاختلاف([1]).
تلك السمة التي لا زالت سائدة في المجتمعات
العربية ,التي تعيش حالة من التخلف السياسي,والاجتماعي,والاقتصادي,والثقافي, وعجزت
من تجاوز معضلة الاختلافات والصراعات,و
تتفاوت الدول العربية من حيث قدرتها على تطويع عوامل عدم الاستقرار لينعم بعضها
باستقرار نسبي. ولكن قد تكون اليمن استثناء في هذه الحالة فعلى الرغم من العمق
الحضاري لدولة مثل اليمن لم يشفع لها ذلك في تحقيق الاستقرار, والاستفادة من
التراكم الحضاري عبر تاريخها الطويل الممتد لآلاف السنين. فقد كان لليمن السبق في
الحضارة الإنسانية المادية والفكرية ([2])
فعلى أرضها بنيت السدود, وشيدت القنوات المائية, واشتهرت بالصناعات الحرفية,وفيها
قامت مملكة من أول الممالك في
التاريخ (مملكة معين)([3]).
وفي اليمن تحققت حضارة مادية خصها الله بسورة من
سور القرآن الكريم، قال تعالى ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ
جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)([4]). وإذا
كانت الديمقراطية هي نتاج تراكم حضاري فكري, ومادي ممارسة وسلوك، فقد كان اليمنيون
سباقون للشورى والديمقراطية قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ)([5]).
ولكن تلك الحضارة تعرضت للوأد تحت ظروف كانت
نتاج عوامل كثيرة منها ما يتعلق بالعامل الجغرافي الذي حال دون قدرة الدولة ببسط
نفوذها على كامل التراب اليمني وكان سبب للتشتت السكاني, وحال دون دمج السكان,
وحفز على التمرد والخروج عن الدولة المركزية ([6]).
كما مثل الموقع الجغرافي, والذي كان مصدر رخاء
لليمن من خلال مرور التجارة الدولية قبل اكتشاف رأس الرجاء الصالح محدد من محددات الاستقرار.
حيث أصبحت اليمن مطمع للدول الأخرى, لما يمثله الموقع من أهمية جغرافية , فهي تطل
على مضيق باب المندب من أهم المضايق البحرية الدولية. كما تطل على البحر الأحمر
وخليج عدن والبحر العربي، وزادت الأهمية الجغرافية لليمن من خلال مجاورته لدول
تملك مصدر الطاقة الدولية, وما تمثله تلك الطاقة من أهمية للاقتصاد العالمي لتكون
اليمن في صلب السياسات الدولية, والإقليمية ذات الصلة بهذا المصدر.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة لدول الجوار من
الناحية الاقتصادية, وأهمية اليمن لتلك الدول من الناحية الأمنية. إلا أن العلاقة بينهما لم تنضج إلى مستوى
المتطلبات الإستراتيجية لاستقرار كلا الطرفين, فكانت المساعدات التي يحصل عليها
اليمن مشروطة بمراعاة التوازن في القوى, ومراعاة الجوانب الدينية, والجوانب
الإيديولوجية, والذي شكل شروط متناقضة مع
متطلبات التنمية الشاملة, ومفهوم الاستقلال أو الديمقراطية, والتقدم السياسي,
والاجتماعي فظل اليمن يراوح مكانه تحت وطأة الجهل, والتخلف, والفقر الاقتصادي,
وعدم الاستقرار السياسي.
وتاريخياً مثلت ثورة 1962م
في الشمال,(سابقا) وثورة 14 أكتوبر عام 1963م في الجنوب نقلة نحو التحرر من
الاستعمار البريطاني, والحكم ألإمامي, والانتقال إلى مرحلة استحقاق تاريخي جديد في
العمل على بناء المجتمع , واستعادة وحدة أراضيه بعد أن شهد عهد التشطير صراعات,
وحروب داخل كل شطر, وصراعات وحروب بين الشطرين. فكانت الوحدة اليمنية نقلة كبرى في
تاريخ اليمن حيث حققت حلم الشعب اليمني بإنشاء دولة واحدة على كامل ترابه الوطني. إلا
أن الاستقرار الذي كان يحلم به الشعب لم يتحقق تحت ضغط العوامل الداخلية والموروث
الاجتماعي الكامن في بنيته القبلية, والموروث الديني, والمتغيرات السياسية
الداخلية، وتحت ضغط التأثيرات الخارجية.
مشكلة البحث :
يعاني اليمن من حالة عدم استقرار فلم تتمكن
الدولة اليمنية أن تفرض سيادتها على جميع أقاليمها إلا في فترات زمنية محددة تحت
ضغط الحركات الانفصالية والتي تغذيها عوامل داخلية بنيوية في المجتمع اليمني مثل القبلية,
والمذهبية, والمناطقية، إضافة إلى عوامل خارجية تتحرك في إطار تلك العوامل
الداخلية. وفي هذا الإطار تسعي الدراسة للإجابة على التساؤل الرئيس التالي: ما
طبيعة العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في الاستقرار السياسي في اليمن؟ وإلى أي
مدى كانت محفزاً لحالة عدم الاستقرار التي عانت منها اليمن، منذ الوحدة اليمنية
1990، وحتى ثورة 2011؟
إطار البحث:
· الإطار
الزمني: يتناول البحث الفترة من 1990 وحتى قيام ثورة 2011، ويرجع تحديد بداية البحث بتحقيق الوحدة اليمنية،
وأهمية هذه الوحدة في زيادة تطلعات اليمنيين نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي
والاجتماعي، أما نهاية الفترة فتم تحديدها ببدء الثورة الشعبية ضد نظام الرئيس على
عبد الله صالح في الحادي عشر من فبراير 2011.
·
الإطار المكاني: يتمثل في الجمهورية اليمنية.
· الإطار الموضوعي: يتمثل في التركيز على المحددات
الداخلية والخارجية للاستقرار السياسي فيها خلال
الفترة محل الدراسة.
أهميه البحث وأسباب اختياره:
تكمن أهمية البحث كونه يتناول قضية من أهم
القضايا الراهنة على الساحة اليمنية حيث يتعرض اليمن إلى هزة عنيفة من عدم الاستقرار,
وحراك سياسي نشط في مكوناته السياسية وحالة من العنف, والصراعات, والحروب, والتمرد
قد تعرض وحدته وسلامه الاجتماعي, وأمنه
القومي للخطر في ظل متغيرات دولية, وإقليمية سياسية, واقتصادية تؤثر بطريقة مباشرة,
وغير مباشرة على استقراره. كما يتعرض
اليمن إلى حالة تصعيد شاملة تحت ضغط العوامل الداخلية والتأثيرات الخارجية مما دفع
الباحث للخوض في عوامل عدم الاستقرار في اليمن مدفوعا بانتمائه وولاءه الوطني.
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى تحليل العوامل الداخلية, والخارجية
التي تؤثر في حالة الاستقرار السياسي في اليمن.
فرضيات البحث :
يسعى البحث إلى إثبات الفرضيات التالية :
1- هناك
علاقة طردية بين العوامل الجغرافية, وعدم الاستقرار السياسي في الدولة
2- توجد
علاقة طردية بين الموروث الاجتماعي,
والديني وعدم والاستقرار السياسي في الدولة
3- هناك
علاقة طردية بين الصراعات السياسية, وحالة عدم الاستقرار السياسي
4- توجد
علاقة بين التعددية السياسية, وحالة عدم الاستقرار السياسي في الدولة
5- توجد
علاقة طردية بين سياسات السلطة, وعدم الاستقرار السياسي في الدولة
6- هناك
علاقة طردية بين سوء الأوضاع الاقتصادية, وعدم الاستقرار السياسي.
7- توجد
علاقة طردية بين طبيعة النظام الدولي, وحالة عدم الاستقرار في الدول التي يتكون
منها هذا النظام
8- توجد
علاقة طردية بين طبيعة النظام الإقليمي وحالة عدم الاستقرار في الدول التي يتكون
منها هذا النظام.
9- هناك
علاقة طردية بين التحولات الدولية والإقليمية وحالة عدم الاستقرار السياسي في
اليمن
منهج البحث :
اعتمد الباحث في تحليل الظاهرة محل الدراسة على منهج
تحليل النظم كون هذا المنهج يعنى بدراسة العلاقة بين النظام السياسي كوحدة وبين
الأنظمة الفرعية الأخرى كما يدرس النظام السياسي كنظام فرعي من النظام الدولي
الأوسع ويوضح حالة التفاعل داخل النظام والأنظمة الفرعية داخله وتفاعل النظام
السياسي مع الوحدات الأخرى في النظام الدولي.
ووفقا لمنهج تحليل النظم يمكن تبسيط الحياة
السياسية المعقدة والمركبة والنظر إليها تحليلا على أساس منطقي على أنها مجموعة من
التفاعلات التي تتم في إطار النظام السياسي من ناحية، وبينه وبين بيئته من ناحية
أخرى. ووفقا لهذا المنهج فإن المجتمعات والجماعات تميل إلى أن تكون كيانات مستمرة
نسبيا تعمل في إطار بيئة أشمل تشمل مجموعة من العناصر والمتغيرات المتداخلة ذات
الاعتماد المتبادل فيما بينها ([7]).
وسيتم التعامل مع موضوع الدراسة من خلال منهج
تحليل النظم على أن النظام السياسي في الجمهورية اليمنية وهو الوحدة الرئيسية في
التحليل وفق هذا المنهج يتكون من عدة أنظمة فرعية وهي الأنظمة التي سيتناولها
البحث الأحزاب السياسية, والقبيلة. والعناصر والمؤسسات الأخرى في البيئة السياسية
التي يعيش فيها النظام على أنة لا يمكن الفصل بين النظام السياسي والاجتماعي
والاقتصادي إلا في إطار حدود تفصل كل نظام عن النظام الأخر بهدف إخضاعها للتحليل
السياسي, باعتبار أن الأنظمة الفرعية محددات للسياسة الداخلية تأثر وتتأثر فيما
بينها وأن الأفعال, ورود الفعل التي تصدر من البيئة سواء بطريقة شرعية عن طريق
المظاهرات, والاعتصامات أو بطرق غر شرعية كالتمرد, وأعمال العنف . هي عبارة عن
المدخلات التي من خلالها يتم تعيين النظام للمخرجات المناسبة للتعامل مع تلك
الحالة ومن خلال تحليل المخرجات التي تصدر من النظام السياسي في كل مرحلة يمكن
معرفة مدى قدرة النظام السياسي في الجمهورية اليمنية على التكيف مع المدخلات, ومدى
تكرار المخرجات والتي يهدف من خلالها النظام إعادة إنتاج نفسه من عدمه. بينما يمكن
ووفقا لمنهج تحليل النظم اعتبار النظام السياسي اليمني وحدة فرعية من النظام
السياسي الأوسع (النظام الدولي ) يمكن تناول المحددات الخارجية لحالة عدم
الاستقرار وفقا لهذا المنهج من خلال رصد الفعل, ورد الفعل بين النظام السياسي
اليمني, والنظام الدولي, والإقليمي, ومدى تأثير تلك التفاعلات على الاستقرار
السياسي في الجمهورية اليمنية.
تم تقسيم الدراسة إلى أربعة
فصول وذلك على النحو التالي:
المقدمة: الإطار العام للدراسة
الفصل الأول: المحددات الجغرافية والتاريخية
المبحث الأول:
المحددات
التاريخية
المبحث الثاني: المحددات الجغرافية
الفصل الثاني:
المحددات الدينية
والاجتماعية
المبحث الأول: المحددات الاجتماعية
المبحث الثاني: العوامل الدينية
الفصل الثالث:
المحددات السياسية والاقتصادية
المبحث الأول: المحددات
السياسية
المبحث الثاني:
المحددات
الاقتصادية
الفصل الرابع: المحددات الخارجية للاستقرار
السياسي في اليمن
المبحث الأول: المحددات
الإقليمية للاستقرار السياسي في اليمن
المبحث الثاني: المحددات
الدولية للاستقرار السياسي في اليمن
الدراسات السابقة:
من بين الدراسات السابقة التي تناولت حالة عدم
الاستقرار السياسي في الجمهورية اليمنية، وقف الباحث على الدراسات التالية:
1ـ
ظاهرة عدم الاستقرار السياسي دراسة تطبيقية على اليمن (82-94) رسالة ماجستير
للباحث محمد سفيان عبده قحطان جامعة الخرطوم وهذه الدراسة شملت فترة زمنية محدودة
من فترة البحث إضافة إلى أنها تناولت عدم الاستقرار كظاهرة ولم تتناول المحددات
الداخلية والخارجية
2ـ
التعددية الحزبية وتأثيرها على الاستقرار السياسي في الجمهورية اليمنية
(1990-2004) رسالة ماجستير للباحث عبدا لخالق داحش علي السمدة جامعة أم درمان وتناولت
هذه الدراسة تأثير التعددية الحزبية على الاستقرار السياسي في الفترة التي تلت
إعلان الوحدة حتى عام 2004. إلا أن هذه الدراسة اقتصرت على دور التعددية الحزبية
كأحد محددات عدم الاستقرار السياسي في الجمهورية اليمنية.
3ـ أثر النزاعات على الاستقرار والتنمية في اليمن
للفترة (1990-2000) رسالة ماجستير للباحث عمر عائض ناجي المعلم جامعة إفريقيا
العالمية السودان.
وقد استفاد الباحث من هذه الدراسات في تحليل عدد
من الأبعاد النظرية والتحليلية للظاهرة محل الدراسة، مع البدء مما انتهت إليه هذه
الدراسات من نتائج في إطار التراكم المعرفي للعلم.
إعداد صالح ناصر جعشان
[6])
على مطهر العثربي، التطور السياسي في اليمن من الدولة المعينية إلى عهد على عبد
الله صالح . القاهرة، مكتبة مدبولي ط 1, 200م ص80
التسميات :
الاستقرار السياسي في اليمن