تحتاج الدول إلى مفاوضات في حالتي السلم والحرب، ففي حالة
السلم تسعى الدولة إلى تأكيد علاقاتها مع غيرها من الدول، من أجل تحقيق مصالحها،
سواء من خلال التبادل الاقتصادي، والتعاون لدرء مخاطر أطراف أخرى، وإقامة علاقات
ثقافية، وغيرها من أنواع العلاقات، التي تضمن استمرار التعاون، وتمتّن أواصره. أما
في حالة الحرب، فإن التفاوض يتم لوضع حد لأسبابها، والوصول إلى صيغة مناسبة
لإنهائه، تراعي مصالح الطرفين، وتصل عملية التفاوض إلى تصورات واضحـة تشمل تفصيلات
عديدة، كتوقيت وقف إطلاق النار، وترسيم الحدود، وعملية تنقل رعايا البلدين، وغيرها
من الموضوعات ذات الأهمية في إطار ما ينبغي أن يكون من علاقات بين الطرفين
المتصارعين، "ولا شك أن التفاوض وسيلة جيدة لحل المنازعات، والتفاوض وسيلة
جيدة لأنه وسيلة سلمية، ولأنه طريقة تفاهم مباشرة بين الطرفين المعنيين بالأمر في
موضوع يمثل مصلحة مشتركة بينهما، هما أدرى بها، وهما أصحاب الحق فيها، ولا قيمة
لأي حل إلا إذا جاء باقتناع منهما، وهذا ما تحققه المفاوضات. ومن ثم، فالمفاوضات
ليست إجراء شكليا، بل لا بد من توافر النية الحقيقية والاستعداد الطيب من كلا الطرفين؛
للوصول إلى حلول تفاوضية، يرضى عنها الطرفان. ومن هنا، فإن التفاوض يفترض وجود قدر
من المرونة من الأطراف المعنية، بما يعني أن يراعي كل طرف حقوق الطرف الآخر، قد لا
يدخل طرف في المفاوضات بهدف أول ووحيد وأخير، وهو الحصول على كل المكاسب، فهذا لا
يؤدي إلى حلول متوازنة ومقبولة، يضمن لها النجاح".
وثمة موضوعات
متشعبة يحتاج التفاوض حولها وقتا طويلا، كما أن الوقت الذي تأخذه المفاوضات، يتوقف
على مدى المرونة، والرغبة الحقيقية في الوصول إلى اتفاق تدفعان الأطراف إلى اختصار
الوقت، الذي تستهلكه عملية التفاوض، وفي حالة وجود طرف ثالث يقوم بعملية الوساطة
فإن الوقت، الذي تستغرقه عملية التفاوض، يزيد، وبالطبع، فإن التفاوض أسلوب معقد من
أساليب التسوية السلمية، فهو ليس أسلوبا بسيطاً أو واضحاً في آلياته وأشكاله. ولكن
المدى، الذي تصل إليه تعقيداته يتوقف على طبيعة القضايا محل النزاع، وطبيعة
العلاقة بين الطرفين المتنازعين، ومدى توافر خيارات أخرى لدى كل منهما لحل النزاع،
وإضافة إلى الظروف، الإقليمية والدولية المحيطة بطرفي المشكلة، وهي الظروف التي
تدفع نحو ضرورة اتباع أسلوب التفاوض أو غيره لحل النزاع.
ومن المؤثرات، في
عملية التفاوض بين الدول، أسلوب صنع القرار الخارجي، إذ توجد مؤسسات تتولى عملية
صنع مثل هذا القرار المتعلق بمصالح الدولة وعلاقاتها الخارجية، ويؤكد الواقع أن
الدولة، التي تأخذ بالأسلوب المؤسسي، يكون اتخاذ القرار فيها أسرع من الدولة
الشمولية، كما أن تعدد الجهات المرتبطة بموضوع التفاوض يطيل عملية التفاوض، وكلما
كانت المفاوضات على مستوى أعلى، كان الوقت أقصر، كما أن للرأي العام تأثيراً
كبيراً في القضايا المصيرية، كما تتأثر المفاوضات بشخصية القائمين بها، حيث من
الطبيعي أن يكون للدوافع الذاتية، كالفرح والثقة والشدة والقلق، أثرها في عملية
التفاوض، إلى جانب ما يتوافر لهؤلاء من مهارات في عملية التفاوض، وخبرات تراكمية،
إضافة إلى تأثيرات الأطراف الأخرى في سير التفاوض، سواء كان هناك طرف وسيط، أو طرف
آخر يهمه نتائج المفاوضات، يعمل على توجيهها إلى الوجهة، التي يريدها، بالتأثير في
أحد الأطراف، إضافة إلى ذلك فإن توازن القوى يؤثر في عملية التفاوض ومداها الزمني
وقراراتها والاتفاقيات، التي تتمخض عنها.
وبناء على ما سبق
يمكن اختصار الشروط المطلوبة لنجاح المفاوضات الدبلوماسية والسياسية في القواعد
التالية:
- التخلص تماماً من روح التعصب والتصلب والالتزام الشديد بالمواقف، أي يكون المتفاوضون عمليين ومرنين.
- ضرورة تحديد أهداف السياسة الخارجية في إطار المصلحة القومية والأمن القومي، مع الأخذ في الاعتبار ما يؤازرها من قوة.
- أهمية النظر إلى المسرح السياسي من وجهة نظر الأمم الأخرى، أي مراعاة مصالح واتجاهات الدول الأخرى.
- توافر الرغبة في التراخي والتوصل إلى حل وسط Compromise حول كل القضايا غير الحيوية.
أما كيف يمكن
التوصل إلى هذه التسوية، فإن ذلك يتطلب الشروط الخمسة التالية:
- ضرورة التنازل عن حقوق ثانوية من أجل مزايا جوهرية.
- تلافي التورط في مركز لا يمكن التراجع منه بدون فقدان ماء الوجه، أو لا يمكن تجاوزه بدون مخاطر مهلكة.
- عدم السماح للحليف الضعيف بأن يصنع لنا قراراتنا.
- اعتبار القوات المسلحة أداة للسياسة الخارجية ، وليست موجَّهة لها.
- الحكومة قائدة للرأي العام، وليست تابعة له".
والنقطة الأخيرة
المتعلقة بالرأي العام توجب ضرورة فهم طبيعته ومؤثراته، وإذا كان هناك اختلاف حول
تعريف الرأي العام، فإنه يمكن ارتضاء التعريف الآتي: الرأي العام هو ما يسود من
رأي بين أغلبية المواطنين، أو ما يعرف بالرأي العام الوطني، أو ذلك الرأي السائد
بين أغلبية شعوب العالم، وهو ما يعرف بالرأي العام العالمي. وقد تزايدت أهمية
الرأي العام بزيادة تأثيرات وسائل الاتصال، إذ أصبحت هناك أساليب متنوعة لاستمالة
الرأي العام وحشده؛ لتبني وجهات نظر معينة على المستوى الوطني أو الدولي.
ومع أن هناك قوى
كثيرة مؤثرة في المجتمع تتشارك في تكوين الرأي العام فإنها، جميعاً، تستخدم وسائل
الاتصال في إحداث عملية التأثير. والعلاقة بين المفاوضين والرأي العام متبادلة، إذ
يسعى الأخير إلى التأثير في المفاوضين؛ لتبني وجهة نظره، مما يجعل المفاوضين
يحاولون ذلك من أجل كسب رضائه، وهم في الوقت نفسه، يعملون على تغيير قناعته، إذا
كانت لا تتفق مع الاتجاهات، التي يتبنونها، والتي تسير وفقاً لها عملية التفاوض.
وكلما كان النظام
السياسي يسمح بقدر كبير من المشاركة السياسية، كان للرأي العام تأثيره في توجهات
فريق المفاوضين. ومع أن ذلك قد يؤدي إلى تطوير عملية التفاوض، فإنه يعضد مواقف
الحكومة، ويمثل عنصراً ضاغطاً للحصول على المزيد من المكاسب، كما أن الدول أصبحت
تولي الحصول على تأييد الرأي العالمي جهداً كبيراً، من خلال وسائل شتى، أهمها
توظيف وسائل الاتصال من أجل دعم وجهات نظرها.
وتعد إسرائيل من
أكثر الدول، التي تميل إلى توظيف عنصر الرأي العام ليكون ورقة من أوراق التأثير في
المفاوضات، "وهي تجيد استخدام هذه الورقة كثيراً بالنسبة إلى شقي الرأي العام
الداخلي المتمثلين في الأحزاب والقوى السياسية وفي الشعب الإسرائيلي في مفهومه
الواسع. فعلى مستوى الأحزاب والقوى السياسية، خصوصاً القوى السياسية المشاركة في
الائتلاف الحكومي، نجد أنه في أثناء المفاوضات، التي جرت مع الليكود، بعد زيارة
الرئيس السادات للقدس، أن الإسرائيليين كانوا دائما يدّعون بأنهم، لو ساروا في
موضوع ما على نحو معين، لانفرط عقد الائتلاف الحكومي، خاصة أن هناك من يعارض ذلك
داخل الائتلاف. ويأتون بهؤلاء الأشخاص المعارضين، وهم وزراء؛ ليحاولوا إقناع الطرف
الأمريكي بأنه لو تحركت إسرائيل قيد أنملة في هذا الاتجاه أو ذاك، لانهار الائتلاف
الحكومي. وكثيراً ما كانت تنطلي هذه الأساليب على الأمريكيين. وعلى مستوى الشعب
الإسرائيلي، عادة ما يدعي الإسرائيليون أن الشعب غير قابل لمسألة ما. ويضربون مثلا
باستطلاعات الرأي العام، ويفترضون في كلامهم وآرائهم ـ إما بطريقة مباشرة أو غير
مباشرة ـ أن الوضع مختلف في العالم العربي، وأن الحكومات العربية تستطيع أن تقرر
ما تشاء، من دون الاكتراث بالرأي العام".
ويبدو البعد
الثقافي مهما في عملية التفاوض بين الدول، إذ لا بد لكل دولة أن تعرف الخلفية
الثقافية للدولة، التي تتفاوض معها، لأن اختلاف دلالات اللغة والسلوك الاجتماعي قد
يؤدي إلى سوء الفهم، الذي يزيد من عدم الثقة، ويؤدي إلى تدهور العلاقات وتعقد
عملية حل المشكلات، ولعل ما سبق يعطى تصوراً موجزا عن المفاوضات بين الدول، من حيث
أساليبها ومؤثراتها، والاعتبارات الداخلة في عملية التفاوض؛ لإنجاح أهدافها في
عالم السياسة والدبلوماسية.
التسميات :
كتب دبلوماسية